العودة إلى تسعينيات القرن الماضي في كرة القدم تتركنا أمام مشاهد واضحة في كرة القدم اللبنانية. الملاعب مليئة باللوحات الإعلانية، والشركات تتسابق لوضع أسمائها على قمصان اللاعبين، ورعاةٌ أرادوا أن تحمل المسابقات أسماء علاماتهم التجارية، ولاعبون يؤدون أدواراً أساسية في دعايات تلفزيونية لتسويق المنتجات، ومنتخبات تحظى برعاية من القطاع الخاص أكثر مما حصلت عليه من الجهات المعنيّة برعايتها.العودة أيضاً في كرة السلة إلى الأعوام العشرة التي تلت بداية الألفية الجديدة، تبيّن أنها تخطت قيمة عقود الرعاية، بين إعلانات في الملاعب، وأخرى على قمصان الفرق، ومثلها عبر شاشات التلفزيون الـ 10 ملايين دولار أميركي في الموسم الواحد.
لكن كل هذه المشاهد اختفت أو اختفى الجزء الأكبر منها، أقلّه في المواسم الأربعة الأخيرة في كرة القدم، ومن ثم مع بداية الموسم الجديد في كرة السلة. الأمر طبعاً ليس غريباً، إذ أن الأزمة الاقتصادية التي أصابت الكل تركت أثرها السلبي الكبير على انجذاب المعلنين نحو الرياضة التي لطالما شكّلت ملاعبها مساحة جذابة للرعاة الذين حوّلوا الفرق واللاعبين إلى لوحات دعائية متنقلة. طبعاً الهدف كان واضحاً وهو جذب الجمهور إلى الأسواق، فكان مردود الدعم التسويقي والإعلاني أحد الأسباب الرئيسية في التطوّر الكبير على المستوى الفني، إذ أمّنت أبرز الأندية حاجاتها المادية من خلال الشركات التجارية والخاصة التي بقيت مؤمنةً بالرياضة وبأنديتها المجتهدة في تسخير علاقاتها لحشد أكبر عددٍ من المعلنين في ملاعبها، وبالتالي تأمين ميزانياتها.

كرة السلة نموذجاً ناجحاً
كرة السلة كانت النموذج الناجح حول ارتباط التسويق والإعلان بالرياضة وتأمينه البحبوحة لها، فكان الرئيس التاريخي لنادي الحكمة انطوان شويري «المعلّم» الذي وضع الأسس الأولى لتحويل اللعبة إلى «سلعة» مربحة إلى حدٍّ كبير، لدرجةٍ تردّد أنه أوعز مراراً إلى المدرب غسان سركيس بطلب وقتٍ مستقطع في أواخر المباريات حتى لو كان الحكمة فائزاً بنتيجة كبيرة، وذلك بهدف تمرير إعلانٍ من هنا وآخر من هناك عبر التلفزيون الناقل للمباريات.
طبعاً لا شيء مستبعد هنا، إذ إن الرجل امتلك فكراً تسويقياً استثنائياً جعله يؤسس إمبراطورية إعلانية في العالم العربي، وهو الذي خصّ نادي الحكمة وكرة السلة بقسمٍ كبيرٍ من عمله الناجح من خلال دفع الكثير من المعلنين نحو ملاعبها، فانتعشت الأندية وعرف اللاعبون أياماً ذهبية حوّلتهم إلى أثرياء في مدةٍ زمنية قصيرة.
تخطّت قيمة عقود الرعاية في كرة السلة سابقاً الـ 10 ملايين دولار في الموسم الواحد


بعد شويري سار كثيرون على نفس النهج، وخصوصاً رجال الأعمال الذين اقتحموا ساحة المستديرة البرتقالية بحثاً عن استفادة تجارية أو شخصية عبر استثمارات مباشرة في الأندية والملاعب المختلفة لدرجةٍ أنه في بعض الأحيان لم يجد الرعاة مكاناً في القاعات لوضع علاماتهم وشعاراتهم التجارية، فافترشوا الأرض بالإعلانات، لكي يؤمّنوا وجودهم إلى جانب أصحاب الإعلانات على اللوحات.
كل هذا رفع من القيمة المالية للعبة، ورفع بالتالي من قيمة حقوق النقل التلفزيوني الخاصة بها، والتي يذهب 80% من مردودها للأندية، فوصلت هذه القيمة إلى أكثر من مليون و200 ألف دولار في الموسم الواحد عند فضّ العروض في عام 2016.

الحاضر غير الماضي
إذاً شعبية كرة السلة جعلتها مركزاً جذاباً للإعلان، لكن هذه الرياضة التي انطلقت بطولتها يوم الجمعة الماضي بعد توقفٍ لأكثر من سنةٍ ونصف، أصبحت قيمتها التلفزيونية 74 ألف دولار للموسم فقط، وظهرت فيها الفرق التي خاضت المباريات بقمصانٍ نظيفة أي من دونٍ أي راعٍ رسمي.
أمرٌ طبيعي ومتوقّع في ظل الصعوبات المالية التي دفعت شركات كثيرة لتجميد أعمالها أو لإغلاق أبوابها، ومنها للأسف من كان ناشطاً في كرة السلة وكرة القدم أيضاً، حيث عادت الإعلانات هذا الموسم إلى الملعب المركزي للمباريات المنقولة تلفزيونياً بفعل بيع اللوحات الإعلانية بأسعارٍ تشجيعية اختلفت كثيراً عن الماضي، لكنها تحاكي الواقع بحيث تراجع سعر اللوحة الواحدة من 20 ألف دولار كحدٍّ أدنى إلى مبلغٍ يتراوح بين الـ 10 ملايين والـ 25 مليون ليرة لبنانية كحدٍّ أقصى.

بقيت بعض فرق كرة القدم قادرة على تأمين رعاةٍ أساسيين على قمصانها (طلال سلمان)

هنا بقيت بعض فرق كرة القدم قادرة على تأمين رعاةٍ أساسيين على قمصانها، لكنها بطبيعة الحال لم تعتمد عليهم كثيراً في الأعوام العشرة الأخيرة بل على أموال رؤساء الأندية والميسورين من أعضاء الإدارات ومحبي هذه الأندية من الميسورين الذين عمدوا إلى مدّها بالأموال عند الحاجة. كما أن العقود المتواضعة عملياً مقارنةً بالعقود الخاصة بكرة السلة لم تخلق لها الكثير من المشاكل إلا خلال فترات متقطّعة، وذلك لناحية تأمين المدفوعات.
نعود هنا من خلال هذه المقاربة إلى كرة السلة وإلى مشاهد كثيرة وضعت الأندية في خطر مع ابتعاد الرعاة والممولين عنها حيث كانت المشاكل المالية سبباً في فتح معارك قضائية بينها وبين لاعبيها عند عجزها عن الإيفاء بالتزاماتها تجاههم، ما يطرح تساؤلاتٍ كثيرة حول ما يمكن أن يشهده هذا الموسم في حال بقي الوضع المالي في البلاد على حاله، فهل سنكون أمام أزمةٍ عامة بعد خروج أبرز شركات القطاع الخاص عن خط الرعاية الضرورية لاستمرار الحياة السلوية؟
مصادر الأندية البارزة في دوري كرة السلة تستبعد حصول مشاكل من هذا القبيل لأسبابٍ عدة، أوّلها أن كل الأندية عمدت إلى تأمين حاجاتها المالية من خلال علاقاتها بجهاتٍ وشركات قادرة على مساعدتها. أما ثانيها فهو أن الأزمة الاقتصادية بحدّ ذاتها أفادت الأندية واللعبة لناحية خفض مستوى التضخم الكبير الذي أصاب اللعبة في الصميم بعد وصول حجم عقود اللاعبين إلى أرقامٍ غير مسبوقة. وبحسب هذه المصادر فإن الكل اقتنع بالواقع المفروض، وباتت العقود بسيطة مقارنةً بالماضي القريب، وبالتالي فإن رغبة اللاعبين بالعودة إلى النشاط جعلتهم يقبلون بالقليل، في وقتٍ أصبحت فيه الأندية قادرة على تأمين حاجاتها اللوجستية ومستحقاتهم من دون تعقيدات كثيرة، وخصوصاً في ظل اختفاء عبء اللاعبين الأجانب الذين كانوا يكلفونها مئات آلاف الدولارات في كل موسم.
يغيب الرعاة، هذا صحيح، لكن القدرة على التعايش مع الواقع الذي لا مفرّ منه، يمكن أن تكون مسألة مفصلية للوصول إلى نتيجة نهائية إيجابية، فإما يشارك الكلّ في عملية الإنقاذ وتقديم التضحيات والقبول ببعض الخسائر أو التنازلات على غرار ما حصل في كرة القدم، أو ستلاقي اللعبة مصير البلاد التي رفض صقورها الماليون التنازل عن جزءٍ بسيطٍ من أرباحهم لإنقاذها من الانهيار.