لطالما صُنّفت الأندية الرياضية في لبنان مذهبياً، طائفياً وسياسياً، وهذا أمر واقع لم يكن بالإمكان الهروب منه، وقد اعتُبر في بعض الأحيان صحياً لشدّ عصب الجمهور وجرّه إلى الملاعب. ربما يمكن إعطاء ثنائية الرياضي والحكمة في كرة السلة كمثالٍ دامغٍ حول ما ذُكر سلفاً، إذ يعيد البعض سبب فورة كرة السلة في التسعينيات ودخولها كل البيوت، إلى الحساسية الطائفية التي وُلدت بين جمهورين عريضين، ما خلق انقساماً جماهيرياً على حجم مساحة الوطن، وكانت له انعكاساته الإيجابية على هذه الرياضة، أقله لناحية رفع مستوى شعبيتها، وذلك رغم الأحداث الكثيرة التي نتجت عن العصبية التي تخطّت كل الحدود أحياناً.
أثرت السياسة سلباً على كرة القدم اللبنانية (أرشيف ــ عدنان الحاج علي)

في كرة القدم كان هذا الوضع سائداً منذ سنوات طويلة وسبق الفورة السلوية، لا بل إن سياسيين كثراً صنعوا شعبيتهم في الملاعب وإدارات الأندية قبل أن يمروا للتواجد تحت قبة البرلمان أو تحت سقف السراي الحكومي. وطبعاً حاول الكثيرون منهم الالتفاف حول أي كلامٍ يربط شعبيتهم بالأندية وأصوات مشجعيها في صناديق الاقتراع، لكن الأمر الواضح أن شخصيات عدة استفادت بشكلٍ كبير من أندية الكرة، حيث صنعت حالة لنفسها من خلالها. هو الأمر عينه الذي حاول رؤساء أندية عدة فعله في الفترة الأخيرة من خلال رعايتهم المالية لها، لكن لا شكّ في أن الأمور تختلف كثيراً عمّا كان الحال عليه في الماضي البعيد وسط التوازنات السياسية، والاصطفافات في الشارع خلف الزعماء والسياسيين، وطبعاً اعتبار هؤلاء أن من يتولّون إدارات الأندية التي تدور في فلكهم إنما هم مكلّفون بمهمات مقابل وعودٍ غير مضمونة. وهذه النقطة الأخيرة أي في ما خصّ الوعد قد لا تكون ملموسة، بل إن الإداريين أصحاب القرار وضعوا جهوداً كثيرة علّهم ينضمون إلى الدائرة التي «يعطف» عليها الزعيم فيحصلوا على منصبٍ أو ينتهي بهم المطاف في موقع الهدف الذي جعلهم يدخلون ميدان الكرة.
اليوم يقتل الوضع السياسي ـ الاقتصادي الذي شلّ كل شيء في البلاد كرة القدم وسواها من الرياضات الأخرى. لكن اللعبة الشعبية الأولى تضررت جراء مزاجية السياسيين أو حساباتهم الخاصة منذ زمنٍ بعيد، وتحديداً أنديتها التي علقت ربما بطوائفها وزادت من عصبيتها المذهبية، لكن كلاًّ منها وجد نفسه مهملاً من «عراب» الطائفة والخط السياسي الذي ينتمي اليه.
إذاً كرة القدم تجد نفسها اليوم في مأزقٍ جديد سببه السياسة بالدرجة الأولى، إذ ليس لديها الآن من ينقذها أو يلتفت إليها في ظل انشغال رجال السياسة في المسائل التي تعدّ أولويات بالنسبة إليهم حالياً، وهم أصلاً لو تركوا الأندية منذ زمنٍ طويل لربما وجدت طريقاً مختلفاً لتمويل نفسها وتفادي الأزمات الاقتصادية، وذلك بدلاً من الطريق الذي سلكته وفيه ارتباط بالسياسيين حتى لو بطريقة غير مباشرة على صعيد التمويل والرعاية.
تضرّرت اللعبة الشعبية الأولى جرّاء مزاجية السياسيين أو حساباتهم الخاصة منذ زمنٍ بعيد


من هنا، أتى رؤساء الأندية باختيار السياسيين، فألقي على عاتقهم الحمل الثقيل القاضي بتأمين التمويل، وهو أمر كان ملموساً مثلاً في حالة نادي الأنصار والرؤساء المتعاقبين عليه بمباركة تيار المستقبل. لكن هذا التيار أراد احتواء شارعٍ آخر من دون نجاحٍ يُذكر، ما انعكس سلباً على القطب البيروتي الآخر أي النجمة، الذي عانى ما عاناه لفتراتٍ عدة بسبب المشكلات المالية، حيث ابتعد «عراب» النادي عنه بفعل إدراكه بأنه لن يتمكن من تغيير هوى الشريحة الأكبر من مدرجاته، فكانت الخضات المالية المتلاحقة، وبدا بعض الإداريين وكأنهم «وكلاء أُعطوا ملفاً للتصرّف به وإيجاد الحلول له منفردين» بحسب وصف البعض.
والسياسة التي كانت السبب في إيقاف النشاط لم تكن أضرارها بالشيء الجديد، إذ أن العودة الى الانتخابات النيابية الأخيرة تعطي فكرةً عن هذه المسألة، فنادي طرابلس مثلاً وجد نفسه في أصعب وضعٍ منذ إنشائه بعد قرار الرئيس نجيب ميقاتي بتعليق أو تخفيف تأمين ميزانيته بالشكل المعتاد. هناك في المدينة يُحكى أن نتائج الانتخابات لم ترضِ الرئيس، وقد لمس فريق عمله أن مجموعة من العاملين في الأندية الكروية التي يرعاها ميقاتي لم تكن في صفّه، فكان القرار الذي «ضرب» طرابلس والاجتماعي بشكلٍ خاص. وهذه القصة لا تختلف كثيراً عمّا عرفه الراسينغ مع ابتعاد راعيه الدائم الوزير ميشال فرعون عنه، حيث انتشرت أسباب عدة لخطوته هذه، منها ما تمّ ربطه بالأوضاع الاقتصادية العامة في البلاد، ومنها لأسبابٍ شخصية، لكن المعلومات تشير أيضاً الى أن للواقع الانتخابي دوراً أساسياً في ما حصل.
ومن الأندية التي لا تسير إلا برضى مرجعياتها السياسية هناك الصفاء، الذي كان لاعبوه قد عانوا الأمرّين في المواسم القريبة الماضية وامتداداً إلى الموسم الحالي من رؤساء وإداريين تمّ تعيينهم، لكنهم لم يتمكنوا من تأدية المهمة بالشكل المطلوب، وبالتالي كان التراجع الفني بفعل المشاكل المالية التي زادت أخيراً، والدليل تلك الصرخة التي أطلقها أخيراً لاعبون بارزون في الفريق عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مطالبين بمستحقات متراكمة وحلولٍ لإهمالٍ يعانون منه على حدّ قولهم.
الواقع أنه من الصعب فصل أي نادٍ عن محيطه السياسي، كما هو حال السلام زغرتا الذي لا تبدو صورته مختلفة عن تلك التي تظهر على الأندية السالفة الذكر، لكن بعض الأندية بقي في دائرة رعاية معنوية أو أقله بعيداً من تأثيرٍ مباشر للزعيم عليه، على غرار ما هو عليه الحال مع العهد بطل لبنان أو الإخاء الأهلي عاليه، بينما طبعت الرعاية العائلية أو الالتفاف المناطقي أندية أخرى مثل شباب الساحل، البرج وشباب البرج، التضامن صور والشباب الغازية.
فعلاً السياسة وزواريبها ونتائج أحداثها ترخي بثقلها على كرة القدم التي تنتظر الآن مصيرها، وهي التي شارفت على الوقوع في الهاوية، بفعل تسارع الأحداث وتدهور أوضاع البلاد، وتالياً الأندية مالياً بحيث يعضّ بعضها على الجرح وينزف البعض الآخر مقاوماً الموت.



كرة السلة «حبيبة السياسيين»


لا تبدو كرة السلة بعيدة عن الواقع الذي تعيشه كرة القدم حالياً، إذ أن أنديتها ارتبطت أصلاً بشكلٍ وثيق وأكبر بالسياسيين الذين وجدوا في مدرجاتها أصواتاً يجذبونها إلى صناديق الاقتراع.
وهذه اللعبة كانت لديها فرصة أكبر من كرة القدم للانغماس في المنظومة الاقتصادية - التسويقية - التجارية الموجودة في البلاد، إذ بلا شك هي تحولت إلى «سلعة» رابحة في مجالاتٍ عدة. لكن أيضاً فإن إدارات كثيرة تعاقبت على الأندية والاتحاد اللبناني سابقاً، لم تعرف الاستفادة من الواقع الناجح واللامع للمستديرة البرتقالية، بل بقيت تدور في فلك السياسيين وتطلب عطفهم للحصول على التمويل الذي ما إن أوقفه هؤلاء حتى دخلت كرة السلة في النفق المظلم.
ولا يخفى أن أكثر من نصف أندية الدرجة الأولى لها ارتباطات مباشرة بالتيارات السياسية الأساسية في البلاد أو بساسةٍ لهم وزنهم، ومنهم من يختار الرؤساء والإداريين ومنهم من يؤمّن التمويل أو مصادره. لكن بعد تراكم المصاعب الاقتصادية في المؤسسات الخاصة أدار السياسيون ظهرهم لمطالب من أوكلوهم بملفات الأندية، فبدأ النزيف الذي جعل البعض منهم يتأخر في دفع المستحقات أو يراكم الديون أو ينتظر تغييراً ما في مزاج عرّابه السياسي ليقف مجدّداً على قدميه.
الأكيد أن كرة السلة اللبنانية لم تأخذ العبر من تجارب ناجحة لبلدان وصلت فيها شعبية اللعبة إلى مستويات مرتفعة جداً على غرار تركيا، وهي الأقرب إلى لبنان جغرافياً، والأكثر نجاحاً فنياً وأيضاً تسويقياً في المحيط، حيث خلقت أندية كثيرة شراكةً وثيقة مع أكبر الشركات بدلاً من أن ترمي نفسها في عباءة السياسيين وتنتظر لفتةً كريمة منهم، رغم أنه في تلك البلاد يبدو جليّاً سعي الكثير من رجال السياسة من رأس الهرم إلى أسفله للتواجد في المشهد الرياضي حبّاً بكسب تأييدٍ أكبر لدى شعبٍ يفرغ شغفه في ملاعب كرة السلة وكرة القدم حصراً.