لقد ضاع صوته وسط هتافات الجمهور حول الحلبة. هو واحد بين عشرات يشاهدون واحدة من أكثر المعارك إثارة في عالم المصارعة على المستوى المحلي. بينما يحاول المصارعون المحترفون تخطي الألم والمخاطر في كل مرة يدخلون حلبة المصارعة، كواحد من الجمهور، يصف يوسف لحظات «استمتاعه بالعنف»، بأنها لحظات لا تخلو من رفع معدل الأدرينالين في الجسم.رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة في لبنان، لا تزال لعبة المصارعة الحرة قادرة على إقامة الحفلات والاستعراضات وجذب جمهور. استطاع أبطال معروفون من استقطاب جمهور واسع في أكثر من حفل، ينادونهم بأسمائهم، ويطالبونهم بالفوز على خصمهم. «لكل لاعب لقب اشتهر به بحسب شخصيته وبنيته الجسدية، وحركة فنية خاصة اعتاد جمهوره عليها ويطالبه بتنفيذها لحسم العرض». أما إطلاق الألقاب على المصارعين وتغيير أسمائهم، فهو وبحسب كلام البطل علي مروة، غالباً ما يكون هرباً من هويتهم الطائفية، «بعض اللاعبين يلجأون إلى تغيير أسمائهم ويفضلون المشاركة تحت اسم أو لقب حتى يكسبوا جمهوراً أكبر، لأن مجتمعنا اللبناني مقسّم إلى مذاهب وطوائف متعددة» يقول مروة. حتى أصحاب البنية الجسدية الخارقة، يخافون من «بعبع» التمييز الطائفي على رياضتهم.
كل إنسان يختار اللعبة التي يحب. يختار نشاطاً جسمانياً له مميزات وقدرات خاصة، رياضة يحبها ويستطيع ممارستها. لذلك، ليست هناك شروط للاختيار، يبرر وقوع شخص ما في حب لعبة معينة. كرة السلة، كرة القدم، كيك بوكسنغ، الكاراتيه، أو المصارعة، «المهم يقدر أن يلعبها»، يقول البطل علي حسن وزني.
بالتأكيد المصارعة تؤلم أولئك الذين يضعون أجسادهم «أمام الضرب» لتقديم عروض المتعة والترفيه. إنها رياضة جزئية، مسرح جزئي. للبعض وسائل أخرى للتسلل إلى المسرح. عندما كان صبياً، اعتنق علي حسين وزني، ابن البطل حسين وزني رئيس الاتحاد اللبناني للمصارعة الحرة هذه الرياضة، واستحوذت الحلبة على كل اهتماماته. وبدلاً من وضع تاريخ والده البطل جانباً واختيار لعبة أخرى، تحول إلى الحلبة، مستعداً لمواجهة خصمه. هو يعلم أن «الانتصار على أجساد عملاقة» أمر لا مفرّ منه، مثل المد والجزر، لكنه متعلق بعدد من المناورات والخدع أيضاً، ويقول حول هذا الأمر «إذا لم تكن على دراية بعالمنا: لا، إنه ليس مزيفاً. إنه محدد مسبقاً».

استعراض وخدعة!
يقول البعض إن المصارعة الحرة تتوزع بين الاستعراض والتمثيل والخداع. المبدأ الأول لهذه الرياضة بحسب وزني هو «الاستعراض». ويضيف، «لعبة تستعرض فيها قوتك للجمهور، حتى الجمهور يحب هذه اللعبة، ويتعلق بأبطالها». يحضر مشجعي المصارعة الحرة ليشاهدوا لعبة حماسية، ويروا فناً وليس عراكاً عادياً. يقول وزني «ففي حال حضر الجمهور ولم يرَ فناً استعراضياً، سيعتبر نفسه جاء لمشاهدة إشكال تافه خال من المتعة».
يعتمد المصارعون على إمكاناتهم الذاتية في ظل غياب الدعم الرسمي


في كل لعبة توجد خدعة أو سر ما. في ألعاب الخفة والسحر وحتى في «كرة القدم» أيضاً. هناك مباريات يعرف الجميع أنه تم الاتفاق على نتائجها مسبقاً. برأي وزني «هناك خُدَع في كل الألعاب الرياضية ولا يتوقف الأمر على لعبة المصارعة. أما بالنسبة إلى التمثيل فكل مصارع يستطيع أن يلعبها بطريقته»، منهم من يقوم بها «بوحشية»، أو أن يلعبها بفن وتمثيل لجذب متابعيه، «هو وقدرته في هذه اللعبة وما يستطيع أن يقدمه لإنجاحها».

«متل العادة يا سعادة»
بين المصارعين القدامى والجدد لا يتعدى عدد المصارعين في لبنان اليوم المئة. لدى الاتحاد لائحة بأسماء اللاعبين المعتمدين، هم أبطال المصارعة الحرة في لبنان: «علي مروة، بلال شعيب، المختار علي وزنة، محمد تفاحة، علي حمية، نضال عبد الرحمن، مصطفى بسما، هاني قاسم، عادل قاسم، يوسف البسط، خضر عبود، ربيع الأسمر، تيسير الصوص، جهاد زين الدين، ومحمد زيدان». «عدد قليل» يقول وزني، ولكن هذا لا ينفي استمرار لعبة المصارعة الحرّة في لبنان، فلكل زمن أبطاله، «ولكننا بحاجة إلى الدعم الإعلامي». واستمرار هذه اللعبة، بحسب البطل وزني كان دائماً على حساب جيوب المصارعين أنفسهم، «نجول على أشخاص مقتدرين وشركات للحصول على رعاية وإعلانات، ثم نبيع تذاكر الدخول، للحصول على مصاريف الحفل، إلا إذا كان هناك من يتبنى الحفل». ويضيف قبل كل هذا الوقت والجهد «لا بد من إنهاء دوام الوظيفة الأساسية»، فالظروف الاقتصادية وكما في كل الألعاب الرياضية لا تسمح لمحترفيها بتكريس كل الوقت لهوايتهم أو رياضتهم المفضلة.
في الستينيات، كانت المصارعة الحرة هي رياضة لبنان الأولى، وكان في مقدمتها الأخوان جان وأندريه سعادة، اللذان تركا بصمة في لعبة المصارعة، واللذان تميزا بحركة «التجسيرة»، أيام المدينة الرياضية. يقول «هؤلاء تركوا بصمة عند اللبنانيين ولا يزالون يتذكرونهم»، كالمثل اللبناني المعروف والذي يقول "متل العادة يا سعادة"، وأساسه الأخوان سعادة. هي الحركة التي كانوا يكررونها دائماً «عندما يضربه (مونشيت) على صدره، وينزل الأخوان جان وأندريه سعادة على شكل جسر، ويعودان ليصعدا بطريقة الراصور»، هي الحركة المكررة، وهذا أساس المثل. «اليوم هناك من يستسهل الربح، أو يريد أن يصبح مشهوراً فقط ،من دون جدية والتزام»، يقول وزني بتهكم.

لعبة الأنفاس
في قانون المصارعة ليس شرطاً أن يتغلب الجسد الضعيف على الضخم أو العكس. «اللعبة» بحاجة إلى نفس طويل وليس إلى الضخامة والقوة، «النفس يساعد المصارع على الاستمرار في اللعبة على الحلبة"، وليس المعيار أن يكون صاحب الجسد الضعيف دائماً هو المهزوم أمام خصمه الضخم.


قانون المنشّطات
يعتقد البعض أن المصارعين يتعاطون المنشّطات، لتفادي الوقوع في الإصابات وتقديم مستوى أفضل. يكشف المصارع علي حسين وزني أسرار اللعبة، ويقول بأن تناول اللاعب لهذه المنشطات وبعض أانواع المخدّر أمر ضروري للاستمرار وقتاً أطول على الحلبة، «يجب على اللاعب أخذ هذه الأمور ليستطيع تحمل الضربات التي يتعرض لها»، ولكنها لا تصل إلى المخدرات المتعارف عليها. هناك أنواع من المراهم المخدرة، والفيتامينات التي تساعد على تنشيط الجسم. بعض اللاعبين يتناولون المخدرات كوسيلة لتكون باب قوة لهم على الحلبة، وللاستمرار وقتاً أطول في مواجهة الخصم، ولكن هذا الأمر لطالما أثّر في عدد كبير منهم، وأودى بحياة أبطال على الحلبة، لما لها من تأثير على القلب والدورة الدموية.

أين يذهب المصارعون المصابون؟
بخلاف الألعاب الرياضية الأخرى، فإن الإصابات التي يتعرض لها المصارع دائماً ما يتحمل هو مسؤوليتها، وتؤثر في صحته وجيبته. لا أحد يتكفله، إلا إذا قام المنظم بالتبرع له من أموال الحفل، أو إذا ما قرر رفاقه المصارعون القيام بجمعية لمساعدته، ويقول وزني «دعم الدولة نادر جداً». ومن جهته يتحدث المصارع علي مروة عن الآثار السلبية لهذه الرياضة، «كل من أتقن هذه اللعبة تركت له مشاكل صحية ونفسية». ينضوي هؤلاء المصارعون تحت لواء نقابة مرخّصة من الدولة وباستطاعتهم إقامة الحفلات في كل المناطق اللبنانية، وإرسال لاعبين للمشاركة في بطولات عالمية، ولكن «لا يوجد دعم مناسب لهذه اللعبة» يقول مروة. كأي رياضي يحب اللعبة التي يمارسها، يتمنى البطل علي مروة تشجيع الشباب على احتراف هذه الرياضة، لكن الاحتراف الرياضي في لبنان لا يؤمّن حياة كريمة، «أشجعهم في بلاد تحترم هذه اللعبة الحماسية وليس في بلادي». حقّق مروة الشهرة واكتسب محبة الجمهور ولكنه يتأسف «لن أكتسب منها معيشة لأولادي أو أي مستقبل نحلم به أو الوصول وتحقيق أي نتيجة هنا».