يكرر أحد اللاعبين المخضرمين الذين لا يزالون يتألقون في الملاعب، رغم تخطّيه سن الاعتزال الطبيعي، أن عمره طال في اللعبة بسبب قلّة اللاعبين المميزين الذين اقتحموا كرة القدم اللبنانية في المواسم القريبة الماضية. ويتقاطع هذا الكلام مع حنين كبير عند البعض الى أيام لاعبين نجوم لا يزالون يستذكرون أهدافهم الجميلة وإنجازاتهم الكثيرة على صعيدي الاندية والمنتخب. وينسحب الكلام ايضاً ليصل الى حدّ المقارنة بين ما عرفته ملاعب لبنان وما تشهده حالياً، حيث يتمّ التصويب تحديداً على مسألة انخفاض مستوى المنافسة والمستوى الفني بسبب عدم ارتقاء مستوى عددٍ لا يستهان به من اللاعبين الى مرتبة اللعب في دوري الدرجة الاولى.المهم أن الاسباب تتعدد لهذه المعضلة التي تلاحق الدوري اللبناني موسماً بعد آخر، لكن المفارقة أنها تصبّ في مكانٍ واحد في نهاية المطاف، حيث يمكن تحديد هوية المسؤول الاول والاخير عنها، والتي لا يبدو أن الحلّ لها يقف على مسافة قريبة من الملاعب التي اشتاق جمهورها الى أسماء تطلق آهاتهم ويتغنون بها على أنها رموز وطنية وتالياً تاريخية.
العودة الى الماضي لا تترك المرء أمام اقتناع مستند إلى أسس علمية تقول بأن هناك فوارق كبيرة بين اللاعب في الماضي ونظيره في الحاضر، إذ إن الامر قد يكون طبيعياً لاسبابٍ لا ترتبط بالقدرة الفنية للاعبين السابقين والحاليين. هذه المسألة تأخذنا الى نقطة اساسية، وهي العقلية القديمة التي لا تزال سائدة في اللعبة، والتي لم تتبدل مع تبدّل كرة القدم وتطوّرها، ما أبقى اللاعب اللبناني في الدائرة نفسها، أي إنه بقي واقفاً في مكانٍ يبعد سنوات طويلة الى الوراء. واللافت أنه في تلك السنوات كان عطاء اللاعب أكبر، وذلك انطلاقاً من انتمائه العاطفي الى ناديه، وذلك عكس ما ظهرت عليه الحال في أحيان كثيرة، في الفترة الاخيرة، حيث الولاء الاول هو للقيمة المالية التي يتمحور حولها العقد الذي يربط اللاعب بالنادي الذي يدافع عن الوانه.

بين الهواية والاحتراف
وتضاف الى هذه النقطة نقطة اخرى لا يمكن أن تسقط من ذهن متابعي الكرة في تسعينيات القرن الماضي ولا يزالون يتابعونها في ايامنا هذه. وهنا الحديث عن ملاحظة يمكن اخذها من اي صورة قديمة للاعبين ينشطون في الدوري، حيث تبدو البنية الجسدية لغالبيتهم ممتازة، وذلك بعكس ما يظهر عليه لاعبون حاليون يلعبون في دوري الاضواء لكنهم لا يتمتعون بالمقوّمات البدنية المطلوبة.
لهذه النقطة اهمية فنية يعرفها المدربون المحليون، وتحديداً اولئك الذين خاضوا غمار دوري الدرجة الاولى، إذ يعلمون مدى تأثيرها على الاداء العام للاعب، ويعلمون ايضاً سبب ضعف اللاعبين الحاليين على هذا الصعيد، وهو طريقة عيشهم غير المتزنة وعدم انتباههم الى انواع مأكلهم وساعات نومهم، وهو أمر مستغرب لكون قسم كبير منهم يعيش حياة شبه احترافية بحيث لا يشغل أي وظيفة غير الكرة، وذلك عكس الوضع في الماضي حيث عاش اللاعبون ظروفاً صعبة بفعل وظائف متعبة، لكنها ايضاً انعكست ايجاباً على طريقة عيشهم في مكانٍ ما، إذ كونها كانت تفرض عليهم الاستيقاظ باكراً، فاضطروا إلى الخلود للنوم في وقتٍ مبكر وابتعدوا عن السهر.
تبدو الأندية المسؤولة الأولى عن عدم إنتاج اللاعبين وتطويرهم


لذا، فإن مسألة ذهاب البعض الى عيش حياة الاحتراف من دون الانشغال بوظيفة اخرى أخذته الى العيش حرّاً ومن دون التزامات، فوجد وقت فراغٍ كبيراً وأراد ملأه احياناً بأمورٍ تؤثر سلباً في مسيرته الكروية، منها السهر أو تحويل الطعام الى وسيلة تسلية.

العقلية الادارية القديمة
كل هذا لا يساعد اللاعب الحالي على تطوير مستواه، لكن ايضاً هناك من يُسأل بشكلٍ اساسي عن عدم تطوّر اللاعب واللعبة، وهي ادارات الاندية التي تعتبر المسؤولة الاولى عن كل شيء في ما خصّ القرارات التي ترتبط بفرقها عامة. هذه الإدارات هي من يختار المدربين، وهي من تضع استراتيجيات الانتقالات، وهي التي تشرف على فرق الفئات العمرية المفترض ان تكون منتجة، وهي مسؤولة عن الارض التي يُفترض الزرع فيها، أي الملاعب التي لا تصلح بمعظمها لإطلاق مشاريع تطوير اللاعبين منذ صغرهم حتى الفريق الاول.
ويبدو لافتاً أن كل الاندية ذهبت الى تعيين لاعبين سابقين للاشراف على اجهزتها الفنية، لكن القسم الاكبر منهم فشل في مهامه، لا بل بشكلٍ أدقّ فشل في تقديم لاعبٍ متميّز على صورته. وفي هذه النقطة ضرر عام على اللعبة، لكن سببها بديهي أيضاً، إذ إنه في ايام هؤلاء المدربين الذين تميّزوا سابقاً كلاعبين بالفطرة، لم يكن هناك مدربون تكتيكيون على مستوى عالٍ، وبالتالي لم يتلقَّ المدربون الحاليون اعلى الافكار التكتيكية، لذا لا يمكنهم تطوير اللاعبين الحاليين، ما يعني أنه ليس هناك كوادر تدريب يخدمون اللعبة بالشكل المطلوب، وهو أمر تُسأل عنه الاندية طبعاً، وخصوصاً تلك التي لا تثق الى حدٍّ كبير بالمدرب الاجنبي القادم عادةً بمشروع بناء طويل الامد مقابل طلبٍ مشترك عند هذه الاندية بتحقيق النتائج قبل اي شيء آخر، لا الاستثمار باللاعبين الشبان ومنحهم فرصة الاحتكاك للتطوّر، وهو أمر لو لم يكن موجوداً لما ذهب الاتحاد اللبناني أخيراً الى إجبار كل نادٍ على إشراك عددٍ معيّن من اللاعبين الشبان في الموسم المقبل.

كانت المنافسة في الماضي أقوى من اليوم (عن الويب)

ومسألة النهج العام أو العقلية الادارية السائدة التي تركّز على الاهتمام بالفريق الاول بشكلٍ خاص، لا تؤسّس بشكلٍ صحيح على صعيد الناشئين ثم تطلب تنمية موهبته عندما يصل الى الفريق الاول بفعل تلك الموهبة الطبيعية التي ولدت معه. لكن ما هو متعارف عليه هو أن المدير الفني لا يمكنه تطوير اللاعب على صعيد تنمية عضلاته مثلاً إذا لم يكن قد تأسّس اصلاً بالشكل المطلوب، فالادارة الفنية بطبيعة الحال ليست تدريباً مباشراً، ولهذا السبب يوجد مدربون متخصصون في جوانب عديدة مع المديرين الفنيين في العالم المتقدّم. والمدير الفني في نهاية المطاف يتركز عمله الاساسي على ضبط الفريق تكتيكياً ووضع الاستراتيجيات المناسبة، والدقة في اختيار اللاعبين، وقراءة المباريات بشكلٍ صحيح، وادارة المجموعة.
ببساطة، صناعة اللاعب تبدأ من إدارات الاندية التي تعيّن أيضاً اللجان الفنية الموكلة باستراتيجياته العامة، والتي تضع الهيكلية المالية المفترض أن يتم استثمارها في الاماكن الصحيحة لتفرز هيكلية فنية عامة انطلاقاً من الفئات العمرية وصولاً الى الفريق الاول.
إذا، المُنتِج الاساسي هو الاداري الذي لديه فكر معيّن، وهو فكر لم يتبدّل مع تبدّل الزمن في انديةٍ عديدة، وقد ظهر في الاعوام الاخيرة انه بات متشابهاً بين نادٍ وآخر، فاللوم لا يجب أن يُلقى دائماً على المشاكل المالية، إذ حتى لو سلّمنا جدلاً بأن مداخيل اللعبة صارت كبيرة وقررت الدولة دعمها، ليس هناك كوادر كثُر لإدارة الاندية بشكلٍ مثالي، بسبب سيطرة العقلية القديمة التي ترفض احياناً الافكار الشابة وتبعد الاداريين الشبان.
والاهمية الادارية في تطوير اللعبة تبدو جليّة حتى من خلال القوانين العصرية، ويمكن اخذ معايير الاتحاد الآسيوي لناحية شروط المشاركة في دوري ابطال آسيا، والتي تصوّب مباشرة على ضرورة وجود الادارة المحترفة بكل ما للكلمة من معنى، بينما في لبنان لا يمكن الدعوة الى الاحتراف في ظل سيطرة العقلية الهاوية التي لم تأخذ اللعبة الى الامام سابقاً، إذ يبدو الوضع وكأن الاندية تدور في نفس الحلقة موسماً بعد آخر، فيبقى العمل اليومي كلاسيكياً، ويتّسع الفراغ الذي يدور حوله الجميع موسماً بعد آخر، فيترك خلفه فراغاً لناحية ايجاد خلفاء جديرين للنجوم القديمين.