مشهد رياضي غريب تعيشه مدينة طرابلس حالياً. مشهد تحضر فيه التناقضات بين صورة المدينة الكروية والرافضة للعبة في آنٍ معاً. في عاصمة الشمال، يتربّع الملعب الأولمبي كأول صرح يدلّ على المدينة. لكن كما هي حالته السّيئة، تبدو الأمور متجهة، لا بل اتجهت إلى الأسوأ بالنسبة إلى عددٍ من الأندية، التي يبحث بعضها عن تاريخٍ ضائع، والبعض الآخر عن خلاصٍ لمستقبلٍ مجهول حتى الآن.
كانت طرابلس مقصداً للبيروتيين لصيد المواهب (أرشيف ــ هيثم الموسوي)

طرابلس، تلك المدينة المليئة بالأندية الموزّعة بين الدرجات المختلفة، كانت في يومٍ من الأيام مقصداً للأندية البيروتية السّاعية إلى ضم المواهب المميزة، لكنّ ارتباط الأندية بالسياسيين قضى عليها، لا بل أخفاها عن خارطة دوري الأضواء، لدرجةٍ نسي كثيرون أسماءها ولو أنّ تاريخها لن يُمحى يوماً. الرياضة والأدب مثلاً. قدّم خلدون المصري، وواصف وبلال الصوفي، وابراهيم الحصني، وعادل بيسار، وعزت آغا، ووليد قمر الدين، والحارس العراقي عامر عبد الوهاب، وغيرهم من النجوم الذين عرفهم الدوري اللبناني، في حقبةٍ ذهبية ضمّت أبرز لاعبي طرابلس. لكنّ هذا النادي العريق يقبع اليوم في الدرجة الثالثة (يلعب فيها الشباب طرابلس أيضاً)، وهو تقهقر إليها وتخبّط في الدرجات الدنيا منذ أن أوقف آل كرامي دعمهم له. وفي ذاك العصر أيضاً، كان هناك حركة الشباب المنتمي إلى منطقة جبل محسن، والذي برزت منه أسماء عدة مثل شعبان حمادة، فؤاد فهد، نزار سعد، وربيع عثمان. هو الآخر ضحية نتيجة توقف الدعم السياسي الذي خصّه به علي عيد، فسقط إلى الدرجة الرابعة. بدوره، الاجتماعي الذي قضى مواسم في الدرجة الثانية أكثر من تلك التي عرفها في الدرجة الأولى، مهدد اليوم بالاختفاء مع انتظاره الحصول على فتات من الدعم الذي اعتاد تقديمه إليه الرئيس نجيب ميقاتي. أما المصيبة الأكبر فهي تلك التي قد تضرب فريق طرابلس كونه الوحيد الذي يمثّل المدينة في دوري الدرجة الأولى.

ارتدادات الانتخابات
بدا جليّاً منذ أكثر من شهر بأنّ نادي طرابلس ذاهب نحو الدخول في دوامة أزمة لم يعرفها منذ تأسيسه قبل 10 أعوام. الرئيس ميقاتي هو الداعم الأساس له عبر مؤسسة العزم والسعادة، بمبلغٍ سنويٍّ تراوح بين الـ 600 و800 ألف دولار، ووصلت في الفترة الأخيرة إلى الـ 900 ألف دولار، لكن ليس بعد الآن...
تقلّص دعم ميقاتي للأندية بعد نتائج الانتخابات وتفاعل القطاع الرياضي معها


القصة ليست وليدة اللحظة. إذ منذ شراء ميقاتي لرخصة أولمبيك بيروت وتقديمها إلى طرابلس كهدية ليُطلق فريقاً يحمل اسم المدينة، ما انفك عن دعم ما خلقه. لكن مع المتغيرات السياسية التي عاشتها المدينة والمعارك القاسية بين الانتخابات البلدية والنيابية، تبدّلت أفكاره بشكلٍ كبير. في الانتخابات البلدية الأخيرة، خسر ميقاتي المعركة وفاز أحمد قمر الدين (لاعب الرياضة والأدب سابقاً ونائب رئيس الاتحاد اللبناني)، فكان «الغضب السياسي» على شقيقه وليد من باب تأكيد عدم وجود ميزانية داعمة للنادي في موسم 2016-2017. كان الهدف من ذلك تطيير الأخير من رئاسة النادي، ليتمّ تشكيل إدارة من أشخاص يدورون في فلك رئيس الوزراء السابق. بعدها جاءت الانتخابات النيابية، إذ بدا أنّ ميقاتي لم يكن راضياً عن «مردود» القطاع الرياضي فيها وتفاعله معها، بحيث كان ما حصل عليه من «أصوات رياضية» غير متكافئ مع المبالغ التي صرفها على دعم أندية كرة القدم في منطقته. ويقول مقرّبون من ميقاتي بأنه قرر تركيز العمل على قطاعات مجدية أكثر، كالصحة والتربية والثقافة، وبالتالي الابتعاد كليّاً عن الرياضة، لكن بعد ضغوط كثيرة من فعاليات وأشخاص حريصين، قرر تقديم 250 ألف دولار لنادي طرابلس. المبلغ هذا لا يمكن أن يضمن بقاء الفريق في الدرجة الأولى، والدليل أنّه عندما بات غير قادرٍ على تعيين مدرب يملك أعلى درجات الخبرة، لجأ إلى خيار الدولي السابق فادي عياد الذي لم يسبق له تدريب أي فريق في دوري الأضواء. كذلك، فإن الاجتماعي الذي يملك قاعدة شعبية جيدة، كان قد عانى من تخفيض المبلغ الذي خصّصه له في الموسم الماضي (100 ألف دولار)، ولن يصل الدعم هذه السنة إلى 30 ألف دولار، ما يهدد وجود الفريق الذي يبلغ من العمر 28 عاماً، والذي تخرّج منه عياد نفسه، إضافةً إلى لاعبين مميزين مثل محمد دياب ومروان حمزة الذين لعبوا مثل عياد مع الانصار، وذو الفقار يونس والد النجم اللبناني - الألماني أمين يونس، وعميه عباس واحمد يونس...

الدعم بحسب عدد الأصوات
ظهرت أولى بوادر الأزمة في نادي طرابلس إلى العلن عندما أعلن مدير الفريق مازن خالد استقالته من منصبه، معلّلاً السبب بأنه لم يكن راضياً عن طريقة مواجهة الأزمة، «إذ كان من المفترض أن تواجه بطريقة أخرى تحفظ النادي وتحفظ كرامتنا». خالد الذي لم يكن يفضّل الكلام، يؤكّد في حديث مع «الأخبار» علاقته الجيدة بالإدارة، مضيفاً أنّه لم يكن «مقتنعاً بالقرارات التي اتُّخذت، فأنا وجّهت كتاباً إلى الرئيس ميقاتي لتوضيح الخطر الكبير الذي يحيط بالفريق، ولم يكن بإمكاني القبول بفكرة الاعتماد على سقطة فريقٍ آخر لكي نبقى في الدرجة الأولى، بل الأهم بالنّسبة إليّ هو تقديم فريق يعكس صورة جيدة عن المدينة من خلال النتائج المميزة التي يحققها، لا المشاركة من أجل المشاركة فقط، لكن للأسف كان السير في اتجاهٍ آخر والقبول بالواقع المفروض». وبعد خالد، استقالت رابطة جمهور فريق طرابلس التي عملت على ملء مدرجات ملعب رشيد كرامي البلدي. وعند هذه النقطة يمكن التوقف. إذ يقول مصدر طرابلسي متابع للأمور عن كثب، بأنه لا يمكن الربط بين عملية الدعم وعدد الأصوات، فإذا كان الرئيس ميقاتي حصل على 500 صوت من أصل 4000 مشجع قَدِموا غالباً لحضور مباريات طرابلس، فإن هذا منطقي في مكانٍ ما، إذ إن هؤلاء المشجعين اقتحموا المدرجات لسببٍ بسيط، وهو أنّ الفريق يحمل اسم مدينتهم، وهم أصلاً من مختلف الطوائف والأنسجة في المدينة. واسم المدينة هو الأهم، ما يفرض حالة إعادة نظر في وضع النادي وعدم تركه يموت كما حصل لأندية أخرى سابقاً، وهي مسؤولية يفترض أن تكون منوطة بكل الميسورين والقادرين على دعم فريق يجمع ولا يفرّق في مدينة احتاجت دائماً إلى أرضٍ خصبةٍ لتجمع فيها الأبناء وجيل المستقبل بعيداً من الآفات والعنف.
تصارح شخصية كروية طرابلسية بحسرة. فالبرغم من تعدد العائلات والأحزاب السياسية في عاصمة الشمال وتنافسها على كل شيء، فإنه باستثناء ميقاتي لم تترك أي شخصية سياسية إفادة على كرة القدم، وذلك حتى عند تسلّم أحمد فتفت وبعده فيصل كرامي وزارة الشباب والرياضة. أمّا البلدية فهي الأخرى لم تضع أي شيء رياضي في اهتماماتها قبل وصول «ابن البيئة الكروية» أحمد قمر الدين إلى رئاستها، فشرع في القيام بتحسينات على صعيد ملعب رشيد كرامي البلدي. إذاً، يطل مشهد دعم السياسيين للأندية من باب الإفادة من قواعدها الجماهيرية فقط، فتسقط تلك العبارات الإنشائية التي تشير إلى أنّ الدعم السياسي هو من أجل الشباب فقط لا غير. هكذا، هرب السياسيون منذ وقتٍ طويل من الملاعب وتخلّفوا عن تلبية دعوات حضور المباريات لكي لا يطلب أحدٌ منهم أي دعمٍ مالي، فبقي تقديم العزاء أوفر «على الجيبة»، وأكثر ربحاً انتخابياً. أمّا الناشئ الطرابلسي فعليه أن يبدأ بالتفكير في كيفية تخطيه معاناة الطريق إلى بيروت للّعب مع أحد أندية الدرجة الأولى، في حال سقط طرابلس أيضاً إلى دوري المظاليم حيث سيختفي من الأضواء آخر نادٍ جمع الصغار في المنطقة وأعطاهم فرصة وحلم اللعب على أعلى مستوى.