على بعد 20 دقيقة من مدينة النبطية على نهر قعقعية الجسر، وفي جو مليء بالتشويق والحماس، يبحث سامر مع صديقه جواد عن شجرة صفصاف مثالية ليقفز منها إلى النهر. رغم أن قصد «الشكة» يصب في مصلحة النشاط الرياضي كونه جزءاً من السباحة، إلا أن غالبية الشباب التي «فعلتها» كانت لها نوايا استعراضية. كانوا يبحثون عن الإثارة (الأدرينالين) برياضة القفز للحصول على المزيد من الإعجاب والتصفيق، فيما «تسترق» الصبايا النظر لقوتهم الجسدية ودرجة توازنهم. ثم هرع أربعة فتيان يرتجفون بالقفز الواحد تلو الآخر. استمرت المغامرات طوال اليوم. في هذا الجو «الذكوري» تحدث اللعبة التي تتخذ في شكلها طابعاً رياضياً، بينما في باطنها، تبدو مسألة «سوسيولوجية» بامتياز. علينا أن ننتبه إلى أن تجربة القفز من على شجرة أو صخرة مرتفعة مخاطرة أيضاً، إذ يعتبر القفز في النهر رياضة شديدة الخطورة بسبب كمية الإجهاد التي يسببها للجسم. لقد تم تحذير الباحثين عن الإثارة مراراً وتكراراً بأنهم يخاطرون بحياتهم بالقفز إلى النهر البارد. ولكن من الواضح أن «المدمن» على الأدرينالين المثير يحاول في كل مرة أن يخترق حافة الصدمة لدى الحشود. تعلق ميساء، وهي من زوار النهر، بذكر حادثة: «منذ ١٢ عاماً، خلع عمي محمد حذاءه وتسلق على شجرة الحور على ضفاف نهر الليطاني، ثم قفز عن علو أربعة أمتار إلى النهر. لم ينجح (في الشكة)، سقط بطريقة خاطئة على ظهره». أصيب بشلل دائم، إذ لم يحمِ مستوى المياه عاموده الفقري. حتى الآن محمد جليس الفراش بسبب لحظة اندفاع وتهور. منذ فترة ذهب إلى ألمانيا لتلقي علاجات قد تساعده في تحسين حركته: «تغيّرت حياته»، تقول بأسى.
في الواقع، يُعد القفز نحو الماء بهذه السرعة كافياً لحدوث ضغط في العمود الفقري، أو كسور في العظام، وفي بعض الحالات ارتجاج في الدماغ. نخبر هذه المعلومات لزائر على ضفة النهر الجنوبي، فيستدير الحاج أحمد بدير من على طاولته القريبة من المياه ويعلّق غاضباً: «هيدا اسمو تهور». لا يولي نظره نحوهم: «هؤلاء الشباب الذين يتعمدون المخاطرة بحياتهم» ولا يشجعهم حتى. لكنه، وبطريقة «أبوية» يخاف عليهم: «حرام هالشباب، تقدير خاطئ لعمق المياه يقضي على مستقبلهم». وبالفعل، فإن الرياضة الحقيقية، لكي تكون رياضة، يجب أن تخضع لمعايير السلامة العامة، أي إن الشق الرياضي في أي «لعبة» فردية كانت أم جماعية، يجب أن يسبق الشق الاستعراضي. في هذه الأثناء، يقفز أحدهم في النهر، من دون أي انتباه لمستوى المياه، بينما تتساقط مياه النهر من شورت نايلون بعد قفزته هذه. يسخر منه «الحاج»، الذي فاته زمن الاستعراض: «هيك يعني أنت رجال، جايين تنبسطوا عالنهر، أو تأذوا حالكن». اللافت أنه حتى التعليقات الرافضة للاستعراض الذكوري، هي تعليقات ذكورية أيضاً. إنها عادة «بطريركية» أيضاً، فحسين، وهو زائر آخر، يقول إنه فكر في منع ابنه من هذه العادة السيئة، بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة. لكنه لم يفعل: «شعرت وكأنني منافق، لأنني كنت أتحدث أمامه عن أشياء مثلها قمت بها في أيام شبابي». لكن ابنه عاد يوماً من النهر وقد انفجرت «طبلة أذنه» أثناء القفز ما ألحق به ضرراً دماغياً دائماً. أكبر قلق حول القفز في النهر هو أن عمق المياه يمكن أن يكون مختلفاً على نحوٍ كبير بين بضعة أمتار قليلة من النهر.
للعبة قوانينها حيث عمق حوض الغطس لا يقل عن 5 أمتار


بالنسبة إلى الأشخاص المحترفين، تجتمع مئات الساعات من التدريب في الثواني الثلاث التي يستغرقها قفزهم من مسافة 27 متراً. ويرى جواد أن «الشك» في النهر هو نسخة «مخففة» من هذه الرياضة المغامرة، تعتمد على اللياقة والمهارات البدنية، مع بعض المخاطرة بعيداً عن القوانين والأصول. فالشك، كمصطلح باللهجة العامية، هو النزول إلى الوسط المائي ابتداء بالكفين، الذراعين، يليهما الرأس ثم الصدر والبطن وانتهاءً بالساقين والقدمين. رسمياً هذه رياضة معتمدة في الألعاب الأولمبية، لها قوانينها وارتفاعاتها الرسمية عن حوض الغطس الذي لا يقل عمق المياه فيه عن 5 أمتار. وهذا ما يؤكده مدرب السباحة لذوي التحديات الخاصة ومؤسس Special Needs Can Swim جبريل برهم في حديث عن خطورة الشك في النهر: «نحن نتحدث عن النزول إلى تجمع مائي غير واضح المعالم في الأسفل بالدرجة الأولى، وبالدرجة الثانية لا يستطيع أي إنسان تخمين سرعة تيارات المياه تحت مستوى سطح المياه الجارية في النهر». وانطلاقاً من خبرته التي قاربت 15 عاماً كمدرب سباحة، من ضمنها 8 سنوات مدرب سباحة لذوي التحديات الخاصة، ومن بينهم تدريب أشخاص تعرضوا للإعاقة الجسدية بسبب «الشك بالنهر»، يقول برهم: «في بلدنا نادراً ما نجد نهراًَ جارياً بحيث نستطيع معرفة عمق المياه ومشاهدة تفاصيل الأرض في العمق، ونزيد على ذلك بأن تيارات المياه السفلية تتشكل وفقاً لتضاريس قاع النهر». الأضرار الجسدية المحتملة كثيرة. يفنّدها علمياً: «خدوش وكسور في الذراعين مع احتمال كبير لحدوث خلع في أحد الكتفين»، وفي حال وقفت الأضرار عند هذا الحد... «فإنني أعتبر الشخص محظوظاً للغاية»، يقول. وبحسب مشاهدته الشخصية يؤكد «الكوتش» برهم: «يقوم عامة الناس بفتح الذراعين بعد الدخول مباشرة إلى الماء»، وهذا يعني أن الرأس يصبح بلا حماية، ما يزيد احتمال حصول «كسور في الجمجمة وما يتبعه، كسور في الرقبه أو أوتارها وصولاً إلى تضرر العمود الفقري الذي يحمي الحبل الشوكي داخل قناة الحبل الشوكي». وكلما اقترب مستوى القطع في الحبل الشوكي من الأعلى فإن ذلك يزيد من نسبة الجزء المشلول في الجسم بحكم أن الأعصاب الحسية والحركية المتفرعة من الحبل الشوكي تتحكم بأجزاء الجسم من الأعلى إلى الأسفل.
يقترح برهم لتفادي كل ما سبق من الأضرار، أولاً: حملات على المستوى الرسمي لرواد التجمعات المائية النهرية وخصوصاً في أيام العطلة الأسبوعية للتوعية من مخاطر الشك، وثانياً، وضع لوحات كبيرة يراها الجميع في مناطق «الشك» توضح تفاصيل القاع والأماكن التي تشكل خطر الإصابة لمن يريد القفز منها. ويبقى الإجراء الأخير بمنع الشباب المتحمس من القفز، في حال تدني مستوى سطح الماء، بإشراف عناصر من الدفاع المدني أو المؤسسة الرسمية التنفيذية التي يقع النهر ضمن اختصاصها. بعد تجربة ما، أشخاص فقدوا الحركة بسبب «الشك الأعمى»، يحذر جبريل برهم أصحاب هذه الهواية من نتائج لا تُحمد عقباها. وقد يكون الموت أحدها.



خطر الموت!
لا تتوقف خطورة «الشك» على القفز العشوائي من دون الانتباه إلى حركة الجسد. بل بيّنت دراسة ألمانية، أنه يجب تعريض الجسد للمياه الباردة، لكي تلائم درجة حرارة المياه قبل القفز، وذلك من خلال الاستحمام، أو بتعريض القدمين للمياه عبر الحافة، قبل القيام بأي عملية. ذلك لأن ارتفاع الفارق بين درجة حرارة الهواء والماء، يزيد من نسبة الخطر على الدورة الدموية، من دون أي يعني ذلك توقف القلب بالضرورة، بيد أن الأشخاص الذين يعانون من مشاكل قلبية قد يموتون جراء صدمة القفز بالماء، نظراً للاضطرابات في دقات القلب الذي قد تسببه برودة المياه.