لا يمكن المرور على تاريخ 17 شباط 2013 مرور الكرام، اذ إنّه في مثل هذا اليوم قبل 50 عاماً أبصر النور طفل أسمر البشرة في حي بروكلين في مدينة نيويورك الأميركية. طفل سيغدو في ما بعد أكبر من مدينة، واكبر من وطن بحجم الولايات المتحدة. طفل سيصبح حديث العالم برمته. حديث لم ينقطع عن هذا النجم رغم اعتزاله في عام 2003. بالأمس، احتفل العالم كله بعيد المولد الخمسين لهذا اللاعب «الأسطورة». يوم أمس تنبّه كثيرون الى ان الشاب الذي زرع السحر في ملاعب دوري السلة الأشهر في العالم «أن بي آي» في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، أصبح كهلاً (بالمفهوم الرياضي). لم يصدقوا. وكيف لهم أن يصدقوا وسيرة نجمهم هذا لا تزال على كل لسان ولقطاته الخيالية لا تزال حاضرة في الأذهان؟ كأنه الأمس، حين كان مايكل جوردان يطير في الهواء مسقطاً الكرة في سلة الخصوم.
كأنه الأمس، حين راح جوردان يبكي كالطفل في عام 1991 وهو يحتضن كأس البطولة بعدما منح شيكاغو بولز لقبه الاول على حساب لوس انجلس لايكرز بقيادة العملاق ماجيك جونسون. كأنه الأمس، حين سجل جوردان سلة قاتلة بمواجهة بريون راسل، لاعب يوتا جاز، ليمنح بولز لقبه السادس في عام 1998. كأنه الأمس، حين سجل جوردان 69 نقطة في سلة كليفلاند كافالييرز في شهر آذار من عام 1990.
من أين يمكن البدء مع نجم كجوردان؟ هل من تحقيقه لقب الدوري الأميركي 6 مرات حيث توّج أفضل لاعب في سلسلة هذه المباريات النهائية؟ هل من اختياره خمس مرات أفضل لاعب في البطولة ككل، ام من حصوله على جائزة أفضل مسجل 10 مرات؟ هل من نقاطه الـ 32,292 في مجمل مسيرته، ام من نقاطه الـ 5,987 في الأدوار الاقصائية، أم من نقاطه الـ 262 في مباريات «كل النجوم»؟ هل من مبارياته الـ 866 المتتالية التي سجل فيها 10 نقاط على الأقل؟
أرقام لا تعد ولا تحصى حققها جوردان في مسيرته المظفرة في الملاعب، لكن الأهم من ذلك أن «أم جاي»، كما يلقب هذا النجم، مثّّل «علامة فارقة» في ملاعب السلة الأميركية، إذ رغم أنه لم يكن صاحب أرقام قياسية في تاريخ البطولة الأميركية مثل كريم عبد الجبار (أفضل مسجل) او بيل راسل (أكثر من توّج بلقب الدوري) او ويلت تشامبرلاين، فإن جوردان عُدّ «الأفضل في كل الأزمنة».
ففي حقيقة الأمر، لا يمكن وضع «مايك» على مرتبة واحدة مع أي من العمالقة الذين مرّوا على السلة الأميركية. يمكن اعتبار جوردان بمثابة حالة استثنائية تخطت الأرقام والاحصاءات التي لا يختلف اثنان على أهميتها في عالم كرة السلة، فقد تميّز هذا النجم بخصائص يصعب إيجاد مثيل لها: من قفزاته العالية الأسطورية حيث كان «أم جاي»، من دون مبالغة، يطير في الهواء في طريقه الى السلة، الى ليونته غير العادية، الى سرعته الفائقة، الى تسديداته التي نادراً ما تخطئ هدفها، وتحديداً تلك الشهيرة التي كان اول من ابتكرها عندما كان يسدد الكرة الى الامام ويميل بجسده الى الخلف، الى قدرته الهائلة على تحمل زمام الامور، حيث يشهد الدوري الأميركي على الكثير من المباريات الحساسة التي كان يجيّر جوردان نتيجتها في النهاية لفريقه التاريخي شيكاغو بولز، إن بتسديدة مباغتة او بقفزة خارقة. ما جعل من جوردان استثناءً لاعباً فائق المهارة ويجيد الاستعراض في آن واحد.
فضلاً عن هذه الخصائص، فقد تميز «مايك» بكاريزماتية وهالة قلّ نظيرهما. هو الذي أضحى «ماركة مسجلة» بقفزاته الخيالية، وبحركته الفريدة في إبقاء لسانه ظاهراً وهو يلعب، وبقميصه الرقم 23.
واذا كان جوردان قد ولد في مدينة نيويورك، فإن مدينة شيكاغو تدين بالكثير لهذا النجم الخارق، اذ انه وضعها على خارطة السلة الأميركية بستة ألقاب عبر فريقها شيكاغو بولز، الذي أصبح شعاره «الثور الأحمر»، وذات شهرة عالمية في التسعينيات بفضل «أم جاي». وما يزيد من عظمة إنجازات «مايك» في تلك الفترة ان حقبة التسعينيات كانت حافلة بالكثير من النجوم، الذين جمعتهم خصومة كبيرة بصاحب الرقم 23 التاريخي كماجيك جونسون في لوس أنجلس لايكرز، وتشارلز باركلي في فينيكس صنز، وكارل مالون وجون ستوكتون في يوتا جاز، وشاكيل اونيل في اورلاندو ماجيك. جوردان وقف بوجه كل هؤلاء النجوم واستطاع إسقاطهم الواحد تلو الآخر.
كل هذا جعل من جوردان «اسطورة» يصعب ان تتكرر. واذا كانت السنوات اللاحقة التي تلت اعتزال «أم جاي» قد شهدت بزوغ العديد من النجوم، يأتي في مقدمهم كوبي براينت، نجم لوس انجلس لايكرز، و«الملك» ليبرون جيمس، نجم ميامي هيت، فإن من الإجحاف وضع مقارنة بين أي من هذين الأخيرين وجوردان، حيث إن زميل جيمس، النجم دواين وايد، كان واضحاً في هذا الجانب، قائلاً: «ببساطة، لن يكون هناك أبداً مايكل جوردان جديد».
اذاً، أطفأ جوردان أمس شمعته الخمسين. دخل «أم جاي» يوبيله الذهبي. هو بالفعل يوبيل ذهبي لنجم ذهبي. نجم ستظل الأجيال تحكي عن سحره، وستبقى كرة السلة شاهدة على إبداعاته، فهو، بحق، «الأفضل في كل الأزمنة».