يمثّل منتخبا الأرجنتين وهولندا الاختلاف الفعلي في ثقافات كرة القدم عبر التاريخ. الأرجنتينيون بمقاربتهم للمباريات حيث يطغى العامل الفردي على أدائهم هم بحق يمثّلون الأسلوب الأميركي الجنوبي. أما الهولنديون فبانضباطهم وروحهم الجماعية يعكسون صورة الأسلوب الأوروبي، الذي يكتسب إضافةً أكبر عندما يكون الحديث عن هولندا التي ابتكرت واعتنقت الكرة الشاملة.الواقع أنه لا يزال هناك الكثير مما سار عليه المنتخبان منذ الأزل، فالأرجنتينيون مثلاً يعتمدون على النجم «المخلّص» الأوحد أكثر من أي وقتٍ مضى، في مشهدٍ يعيدنا إلى النسختين الموندياليتين اللتين حملتا المجد لـ «بلاد الفضة». مشهد مونديال 1978 والنهائي الشهير لمنتخب «التانغو» أمام هولندا نفسها، ومشهد مونديال 1986 الذي بدا وكأنه فيلم سينمائي أراد المخرج من خلاله أن يخطّ نهايةً سعيدة تقدّم بطلاً استثنائياً، وهو ما حصل.
في المشهد الأول كان صاحب القميص الرقم 10 هو البطل، والدليل ما فعله ماريو كمبس في المباراة النهائية (3-1) عندما سجل هدفين من أصل ثلاثة. وفي المشهد الثاني لا ضرورة لوصف ما فعله «الأسطورة» الراحل دييغو أرماندو مارادونا الذي ترك إرثاً مونديالياً لا تزال الأجيال تتناقل قصصه وأحداثه وملاحم «الولد الذهبي» خلال مشوارٍ كان فيه البطل الأوحد لشعب الأرجنتين.
ميسي الوحيد الذي يمكنه أن يجعل من مجموعةٍ من اللاعبين العاديين أبطالاً للعالم


منتخب ميسي
اليوم القصة نفسها تتكرر، إذ إن الأرجنتين تملك منتخباً عادياً، لكن رجلاً واحداً هو ما يصنع الفارق. إنه صاحب القميص الرقم 10 أي ليونيل ميسي، الذي قد يجعل من مجموعةٍ من اللاعبين العاديين أبطالاً للعالم. هو وحده القادر على فعلها، إذ لولا ميسي لاعتبر المنتخب الأرجنتيني مجرد منتخبٍ عادي مشاركٍ في كأس العالم على اعتبار أن لا «سوبر ستار» في الفريق غيره، إذ لا أنخيل دي ماريا أو باولو ديبالا يمكنهما حتى الاقتراب من مكانته.
طبعاً بوجود ميسي صاحب الـ 9 أهداف مونديالية، وهو رقمٌ لم يتخطاه أي أرجنتيني سوى غابريال باتيستوتا (10 أهداف)، تصبح الأرجنتين قادرة على فعل أي شيء، وهي التي تملك أفضلية معنوية على خصمتها، ففي آخر مباراة بين المنتخبين في نصف نهائي مونديال 2014 تأهل «الألبيسيليستي» بركلات الترجيح، ويبدو طموحه اليوم أقوى لبلوغ دور الأربعة مجدداً لأن ببساطة في المرات الثلاث التي وصل فيها إليه نجح بلعب النهائي.
إذاً إيقاف ميسي يعني إيقاف المنظومة غير الموجودة لمنتخبٍ أرجنتيني مرشّح فقط بفعل «النوستالجيا» المحيطة به والتي تحاكي الحلقة الأخيرة من مسلسلٍ جميل لا بدّ لبطله أن ينهيه بإصابة المجد المطلق.
إنه ميسي الذي اعترف مدرب هولندا لويس فان غال أنه لا يمكن إيقافه، لكن ذكاء الرجل قد يجعله يستفيد من وجود «ليو» على أرض الملعب، ويجيّر هذه المسألة لمصلحته، على اعتبار أن الأرجنتين وعندما تخسر الكرة يصبح ميسي غالباً خارج اللعبة بالنظر إلى دوره المحدود في الارتداد الدفاعي، وهذا ما قد يعطي الأفضلية لمنتخبٍ قوي في المرتدات وسريع بدماء شبّانه الموهوبين.


صلابة وكرة شاملة
بطبيعة الحال، لم تخسر هولندا ضد الأرجنتين إلا مرةً واحدة من أصل 9 مواجهات في جميع البطولات، وهي أيضاً تأهلت إلى نصف النهائي في آخر 3 مباريات خاضتها في ربع نهائي كأس العالم. أما مدربها فان غال، فلم يخسر في 11 مباراة قادها في المونديال.
أرقامٌ مرشّحة للارتفاع، إذ إن هولندا تعكس اليوم بأدائها أيضاً ما عُرف عنها سابقاً، فثقافة الكرة الشاملة حاضرة بقوة ضمن المجموعة الحالية، التي تعدّ صلبةً جداً، ومصادر خطرها متفرّقة، ما يجعل أي خصمٍ غير قادرٍ على تنفيذ خطة دفاعية دقيقة، والدليل ما شهدناه في المباريات الماضية حيث تألق كودي غاكبو بدايةً، ثم أطل دينزل دومفريس أمام الولايات المتحدة بتمريرتين حاسمتين وهدف، بينما يبقى وجود لاعبين آخرين مثل فرانكي دي يونغ ودالاي بليند ودافي كلاسن بتأثيرٍ مختلف لكن إيجابي، وهو أمر ينسحب أيضاً على لاعبٍ مثل ممفيس ديباي الذي ساهم في 34 هدفاً خلال آخر 30 مباراة له مع هولندا في البطولات المختلفة بتسجيله 24 هدفاً وتمريره 10 كرات حاسمة.
أما الأهم من كل هذا العرض للهجوم القوي الذي يتمتع به المنتخب البرتقالي، فهو صلابته في خط الظهر حيث اختار فان غال أن يلعب بثلاثة قلوب دفاع، وهي مسألة كفيلة وحدها بتعقيد الأمور على الأرجنتينيين الذين قد يجدوا أنفسهم أمام خطةٍ وحيدة ولا رديفة لها مفادها: سلّموا الكرة لميسي. أليست هي خطتهم الدائمة أصلاً؟