«ليس من تقاليدنا ولا من أخلاقنا مرافقة حريمنا لحضور مباراة حماسية، فيجلسن بين المشجّعين الذّكور كما يحصل اليوم»… هذا ليس مشهداً من مسلسل باب الحارة، ولا خِطاباً لرجل من القرون الغابرة، بل منشور لشاب لبنانيّ على صفحته في فايسبوك في القرن الواحد والعشرين. يختمه ساخراً: «بين النساء وكرة القدم عداوة تاريخيّة تتحول كل أربعة أعوام إلى عشق ممنوع».بعيداً من «المنحى الشرعي» الذي يسلكه البعض في الهجوم على سيدات لأنهن يختلطن بالرجال في مكان عام ويصرخن كلّما سجّل اللاعب هدفاً. وبعيداً من النمط التهكّمي الذي يطبع غالبية الجدالات على مواقع التواصل الاجتماعي، تُشنّ حملة افتراضية على النساء اللواتي يتابعن بطولة كأس العالم 2022، جنودها من الرجال والنساء، غايتهم إبعاد المرأة عن موجة المونديال لأنها ببساطة «لا تفهم في الرياضة»، على حدّ تعبيرهم. وهذا ينسجم مع الصورة النمطيّة التي رسموها لها والقالب الذكوري الذي يقيّدها ويقيّد أي دور اجتماعي تؤدّيه. وهكذا أصبحت النساء المشجّعات واللواتي يعطين رأياً حول المباراة مادّة دسمة لنجوم «التيكتوك» وصانعي المحتوى الرقمي الذين يسخرون، مثلاً، من سيدة لا تعرف أن اللاعب الفلاني يلعب ضمن المنتخب الذي تشجّعه…
تصف الصحافيّة زهراء رمّال من يقارب المجال الرياضي جندريّاً بـ«الجهلة». فـ«من قال بأنه لا يحقّ للنساء مشاهدة مباراة شعبية مثل كرة القدم لأن لاعبيها ذكور؟ ومن قال بأنّي كأنثى لا أملك رأياً في الرياضة وقدرة على التحليل؟»، تسأل بنبرة محتدّة لم تأت من عبث، بل نتيجة ما عاشته من إقصاء من العالم الرياضي الذي تحبّ.
عَمِلت زهراء في القسم الرياضي في أكثر من مؤسسة إعلاميّة وكانت تجربة «رائعة»، كما تصفها، قبل أن تنتقل إلى العمل في المجال السياسي لعدّة أسباب، أحدها شعورها بضيق الفرص في الصحافة الرياضيّة أمام فتاة محجّبة. كانت زهراء الفتاة الوحيدة في القسم الرياضي. «لم يكن الجميع في القسم سعداء بوجودي بينهم، وهناك من أبدى امتعاضه وعاملني كدخيلة وأقلّ درجة منهم».
لم يقمع المجتمع زهراء لأنها فتاة تحكي في الشأن الرياضي وتعمل فيه، لكنّه «استخفّ بقدراتي في هذا المجال»، تتأسّف. جرت معاملتها كلما أفصحت عن خبرتها في المجال الرياضي كطفل يحكي للمرة الأولى والجميع مبهور به. «يضعونني في اختبار دائم حول المعلومات التي أعرفها، من ربح كأس العالم في هذا العام؟ ومن خرج من نصف النهائي في الدوري الأوروبي في ذلك العام؟ ومن سجّل هذا الهدف؟»… وبعضهم يظلّ يسأل حتّى يحشرها في الزاوية ليصل إلى النتيجة التي يسعى للوصول إليها: «لن تعرف فتاة بالرياضة».
من جهتها، ترفض الصحافية الرياضية ياسمين عبيد أن تكون الرياضة حكراً على الرجال، وتربطها بـ«الشخص وميوله ورغباته واهتماماته وليس بجنسه». وتعزو عدم التقبل المجتمعي للكرة النسائيّة بشكل عام إلى كونها «جاءت متأخرة عن نظيرتها لدى الرجال»، لكنها تشير إلى أنه «مثلما تقبّل المجتمع المرأة المتعلّمة والعاملة سيقبلها لاعبة. يكفي أن تحظى بتغطية إعلامية عادلة من حيث الكمّ والطريقة لكسر الصور النمطية، أما عدا ذلك فالرجال لا يلعبون بشكل أفضل من النساء، فهناك حارسات مرمى ومهاجمات ومدافعات مميزات أكثر من الرجال».
هناك سيّدات مُتَيَّمَات بالرياضة يمارسنها بشغف ويتقنَّ فنونها ويتابعن أخبارها


يتّهم البعض السيدات، كلّ السيدات، بأنهن يدّعين «فهم قوانين لعب كرة القدم» ليشاركن في «الترند» العالمي المرتبط بالمونديال، وأنه على حدّ قول صاحب المنشور في أول المقال: «بين النساء وكرة القدم عداوة تاريخية تتحول كلّ أربعة أعوام إلى عشق ممنوع». وذلك بالمناسبة صحيح بالنسبة إلى فئة من الفتيات لكنه لا يفرق عن ادّعاء كثيرين في العالم الافتراضي فهمهم في السياسة والاقتصاد والصحة والحقوق... وإعطاء رأي بقضية لا يعرفون عنها شيئاً.
المشكلة إذاً في التعميم وتنميط صورة «المرأة التي لا تربطها أي علاقة بالرياضة» في ظلّ وجود سيّدات يشجّعن بشراسة ـ ليس فقط خلال فترة المونديال ـ ويفهمن فعلاً قوانين اللعب، مثل سارة التي لا تفوّت أي مباراة حتى لغير الفريق الذي تشجعه (ريال مدريد والمنتخب البرازيلي). ترى الرياضة باختلاف أنواعها «أمراً ممتعاً يبعث على الحماس ومتنفّساً ينتشلنا من همومنا اليومية».
لسارة طقوسها في المشاهدة. تستمع إلى التحليلات التي تسبق المباراة وتقييم الأداء بين الشوطين لتناقشها مع والدها وشقيقها. أما أثناء اللعب، فـ«الأكل والشرب والأحاديث الجانبية ممنوعة، والتعليق ينحصر خلال الاستراحة للحفاظ على التركيز». تشاهد سارة جميع المباريات من المنزل للحفاظ على الهدوء من جهة والجلوس على الكنبة التي «تجلب الحظ» من جهة ثانية. وطبعاً، الزيارات ممنوعة «حتى لا ننشغل بزائر لا يهتمّ بالمباراة فيشوّش علينا، أو يشجّع الخصم فيجلب لنا النحس».
تبالغ سارة في انفعالاتها حول المباراة. وتروي كيف تصرّفت عندما خسر نادي ريال مدريد عام 2010 خمس نقاط بعد أن توقّعت فوز الفريق، «لم أذهب في اليوم التالي إلى المدرسة من شدة حزني وحتى أتفادى تعليقات أصدقائي الشامتين». اليوم، وهي في الخامس والعشرين من عمرها، «أحزن وأفرح بشدة، لكن أتابع حياتي بشكل طبيعي».
وأخيراً، قد تفضّل كثيرات عالم الموضة والأزياء والطبخ والأبراج على عالم الرياضة، وقد لا تتحمل أخريات دقائق أمام شاشة التلفزيون لتتبع حركة الكرة بانتظار دخولها في المرمى، وقد تكون معلومات بعضهن حول الرياضة أقل من متواضعة. لكن، على المقلب الآخر، هناك سيّدات مُتَيَّمَات بالرياضة، يمارسنها بشغف، يُتْقِنَّ فنونها، ويتابعن أخبارها، ويشجّعن بحماسة، وحتى يعملن في المجال الرياضي بشغف، فلنحترم خياراتهن.