الموسم الجديد في كرة القدم الأوروبية قدّم العديد من المشاهد لنجومٍ لمعوا سابقاً وآخرين اقتحموا الساحة بشكلٍ سريع. مشاهد توقّف عندها المتابعون، وخصوصاً في ما خصّ بعض اللّاعبين الذين يواجهون تحديات قديمة جديدة أو آخرين يواجهون تحديات تفوق سنّهم، وهو ما يحتاج خلاله اللاعب إلى قوة ذهنية رهيبة لتخطّي الصّعاب وتقديم أداء يُبقيه في القمّة وفي الحسابات الأساسية على أرضية الميدان.هنا نعود إلى مقولة يردّدها البعض وهي أن كرة القدم لعبة سهلة. مقولة تسقط حتماً عند الحديث عن المتطلبات التي تجعل من اللاعب نجماً عالمياً، وهو أمر لا يمكن أن يصل إليه أيّ كان. وهذه المتطلبات أو المعايير بالتحديد هي ما تخلق الفوارق بين اللّاعبين وتميّز هذا اللّاعب عن الآخر، فهناك الموهبة الفطرية، والإمكانات الفنية، وتالياً القوة الذهنية المثالية.
هذه النقاط الثلاث إذا ما جمعها اللّاعب في شخصه يمكنه أن يتحوّل إلى نجمٍ عالمي، إذ إنه بلا شك سيحتاج إلى إحداها في كل محطة من مسيرته الكروية، بدايةً من تقديم نفسه صاحب موهبة تستحقّ الفرصة، وثانياً عندما يطوّر من مستواه، وثالثاً عندما يستخدم قوّته العقلية للحفاظ على ما وصل إليه لا بل البناء على هذا التقدّم الذي أفرزه التعب والجهد المتواصلين.

صلاح وفينيسيوس
هنا يبرز اسم النجم المصري محمد صلاح الذي لم يكن كثيرون ممن يصوّرونه نجماً كبيراً يتخيّلون بأنه سيحجز مكاناً بين أبرز نجوم اللّعبة، لكن «أبو صلاح» خالف أي اعتقاد من هذا النوع متخطّياً مسألة ظهوره على الساحة من بوّابة الدوري المصري بصفته لاعباً لفريق «المقاولون العرب». وبعد انطلاقه باتجاه عالم النجومية من سويسرا مع فريق بازيل، اصطدم بعدم الثقة به من قبل المدرب البرتغالي جوزيه مورينيو الذي أدار له ظهره في تشيلسي الإنكليزي. كما أنه حتى بعد تألقه مع فيورنتينا وروما في إيطاليا، لم يكن متوقّعاً أن يتسلّق صلاح القمّة بهذه السرعة مع نادٍ اسمه كفيل بوضع الضغط الهائل على أي لاعب يرتدي ألوانه، لكن المصري الموهوب فعلها، محطماً الأرقام، وحاصداً الألقاب، وواضعاً نفسه بين أهم أساطير «الحمر».
أساطير كُثر مرّوا على النادي الشمالي، لكن ما فعله ويفعله صلاح حالياً، وفي هذا العصر المتقدّم في كرة القدم، ليس بالسهل أبداً. لكن الطبيعة المقاومة للصعاب التي امتلكها هذا اللاعب خلقت له قوة ذهنية رهيبة جعلت منه صاحب مستوى ثابت لا بل قادر على تقديم الأفضل دائماً. فعلاً صلاح ليس أسرع لاعب في العالم، وليس أقوى مسدّد للكرات، لكنه بالتأكيد يعرف ما تتطلّبه اللعبة لإصابة التألّق، ففعلها وبأفضل شكلٍ ممكن وبطريقة تعدّ عبرة للجميع.
وصلاح ليس الوحيد هنا في الساحة إذا ما أردنا إعطاء مثال آخر حول الدور الذي يلعبه العقل لرفع أي لاعب إلى السماء السابعة، وهو ما يعيشه حالياً البرازيلي فنيسيسوس جونيور نجم ريال مدريد الإسباني.
الموهبة والتطوّر والقوة الذهنيّة سمات النجومية العالمية


هذا اللاعب الذي وصل قبل 3 أعوام إلى النادي الملكي قيل إنه سيحتاج إلى وقتٍ طويل للتأقلم ومن ثم الارتقاء إلى المستوى العالمي الذي ينتظره الرئيس فلورنتينو بيريز من لاعبيه. وبعد عددٍ بسيط من المباريات مع الفريق الرديف أصبح هدف فينيسيوس إيجاد مكانٍ له في الفريق الأول وإثبات نفسه للحصول على بعض الدقائق وتالياً محاولة تعويض ما كان يريد بيريز تعويضه عندما تعاقد معه ومع مواطنه رودريغو، وهو إيجاد جناحَي المستقبل اللذين بإمكانهما دعم النجم الفرنسي كريم بنزيما وخلق ثلاثي رهيب معه كما كان الأمر عليه أيام لعب الأخير إلى جانب «أسطورة» النادي البرتغالي كريستيانو رونالدو والويلزي غاريث بايل.
الضغط كان رهيباً على فينيسيوس، وازداد طبعاً عندما رأى نجماً مثل مواطنه مارسيلو يفقد مركزه أساسياً بعد 14 سنة من العطاء في مدريد بسبب اهتزاز مستواه بعض الشيء. لكن رغم كل هذا بقي لاعب فلامنغو السابق مبتسماً وضاحكاً مع كل فرصة يهدرها ومجتهداً لتعويضها حتى ارتقى إلى المستوى الذي يجعل من صحف العاصمة الإسبانية تضع صورته على غلافها لتتغنّى به وتعلن عن ولادة نجمٍ بمواصفات عالمية في ناديها المفضّل.
خلاصة الحديث هو أن ما وصل إليه فينسيوس هو نتاج بدايته الصعبة المليئة بالعوائق إن كان في البرازيل أو في إسبانيا، لكنه بسبب قدرته الذهنية تمكّن من تحويل قوّته في القسم الأعلى من جسمه إلى قوة أكبر في القسم الأدنى، فأخرج تلك الموهبة بقدراتها الفائقة هذا الموسم، مستمتعاً باللعبة التي تترك له تحدياً ذهنياً أكبر اليوم قد يجعل منه لاعباً أفضل حتى، وذلك مع استبعاده عن تشكيلة البرازيل رغم تألقه المستمر!

بيدري وغافي
هذا بالنسبة إلى اللاعبين الذين اختبروا اللعب بين الكبار ونجحوا منذ مدة، لكن هناك بعض الأمثلة التي ترتبط بلاعبين شبّان خرجوا من دائرة الضغوط بسرعة وعرفوا كيفية حجز أماكنهم في دائرة النجومية. وربما المثال الأبرز على هذا الأمر بين العامَين الماضي والحالي هما ثنائي وسط برشلونة بيدري وغافي.
بيدري شابٌ في الـ 18 من العمر حالياً، لكنه في العام الفائت لم يغب عن تشكيلة برشلونة أو منتخب إسبانيا طالما كان قادراً على اللعب. كل هذا وفي موسمه الأول مع فريق كبير، والسبب هو النضج الفكري لهذا اللاعب الذي يفوق سنّه، ما جعله في حالة صفاء ذوّبت الضغوط وجعلت منه صاحب شخصية قادرة على فرض حضورها بين الكبار، وهو ما حصل حتى بات عنصراً لا يمكن الاستغناء عنه، وقد فاجأ مدرب «لا فوريا روخا» لويس إنريكه الجميع عندما دفع به أساسياً في كأس أوروبا حيث لعب دوراً محورياً في تشكيلته.
هو الأمر عينه الذي ينطبق على غافي حالياً، فهو مثل بيدري ليس باللّاعب الذي يمتعك فنياً أو خليفة «الأسطورة» الأرجنتيني ليونيل ميسي في «البرسا»، لكنه يقدّم المطلوب منه ويُنجز بطريقة صحيحة.
غافي هذا اعتقد الكل أن دخوله في تلك المباراة الكارثية لبرشلونة أمام بايرن ميونيخ بطل ألمانيا في مستهل مشوار دوري أبطال أوروبا، هو فقط بعد رفع المدرّب الهولندي السابق رونالد كومان الراية البيضاء وذهابه إلى منح فرصة اللّعب للشبّان على أعلى مستوى. ما حصل فعلاً، كان مقدّمة للكشف عن موهبة استثنائية، إذ ليس بالسهل أن يحجز لاعباً في مركزٍ حسّاس في سن الـ 17 مكاناً بسرعة في تشكيلة منتخب إسبانيا، ويلعب مباراتين إحداهما نهائي دوري الأمم الأوروبية أمام فرنسا، حيث قدّم أداءً لافتاً جداً أكّد أن فكره يفوق سنّه وقدرات قدميه، ما يبشّر بمستقبلٍ كبيرٍ له.
إذاً الكرة أكثر من مجرّد مستديرة جلديّة تتناقلها الأقدام فهي ترتقي إلى مستوى تحدٍّ فكري يشغل العقول ويحوّل أوامرها إلى تحفٍ فنيّة تمتّع المتابعين وتُطلق الآهات وتسجّل للتاريخ مشاهد ذهبية لا تُنسى.