استضاف ملعب بلدية برج حمود عام 1993 جولة مباريات ضمن تصفيات آسيا المؤهلة إلى مونديال 1994. ملعب بلدية برج حمود كان الملعب الأكثر جاهزية في لبنان في حينها، وكان يستضيف كل مباريات الدوري اللبناني المهمة، إضافة إلى مباريات المنتخب الوطني. بطبيعة الحال كان الملعب الأكثر ظهوراً على شاشات التلفزيون التي كانت تكتسب عزاً في حينها، نظراً إلى توسّع دائرة بثها، ليطال ويملأ الفضاء مع نهاية العقد. الملاعب الأخرى التي كانت تنافس ملعب بلدية برج حمود كانت تفتقر إلى المواصفات وحتى إلى العشب، إذ كان الكثير من مباريات دوري الدرجة الأولى في لبنان الأخضر يقام على مستطيلات صحراوية رملية، منها ملعبا ناديي الصفاء والنجمة. لم تكن ورشة إعادة إعمار الملاعب اللبنانية تمهيداً لاستضافة كأس آسيا 2000 قد بدأت قط، ولا ورشة تقطير (نسبة إلى الممارسة التي احترفتها قطر لاحقاً في التجنيس) المنتخب الوطني بلاعبين من أصول لبنانية تحتاج إلى تنقيب جينيّ دقيق لكشفها، مثل جيلبرتو دوس سانتوس وغيره الذين سبقوا أبناء الأمهات اللبنانيات إلى الجنسية اللبنانية بأشواط.التشابه مع التجربة الكروية القطرية لا ينتهِ هنا، إذ شهدت ورشة إعمار الملاعب اللبنانية وتعشيبها زهقاً لعشرات أرواح عمّال البِناء حين كان يجري تهريب أرواح العمّال السوريين من أجل الازدهار المزعوم للنموذج اللبناني. دُفعت الديّات سراً ودفنت أسماء من افتدى روحه لتعلو المدرّجات، وبقي اسم المقاول المصرفي ليدّعي أنه عَمّر. تطوّرت المدرّجات من تصميم هندسي يهدف إلى حشد أكبر عدد ممكن من الحضور على أطراف ملعب محدود الطول والعرض، إلى قلاع تعزل الملعب عن «المتطفلين» الذين لم يدفعوا ثمن بطاقة الدخول. للعبة كرة القدم عشّاق بالملايين لا تتسع المدرجات لهم مهما علت، فيتجمهرون ويتسمّرون أمام الشاشات لمتابعتها، ولذلك لا بد للرأسمالية من أن تترجم هذا العشق إلى أرباح ومداخيل داخل الملعب وخارجه، وهكذا بات كل ما يدور في الملعب مشروع مادة إعلانية تتوخى الربح، من الكرة والحذاء الذي يركلها إلى «الشامبو» الذي يقي اللاعب حرج القشرة.
من أكثر الشركات التي تلاعبت بقلوب المشجعين لتملأ بطونهم وتفرغ جيوبهم هي شركات «السموم السكرية» المسماة مشروبات غازية أو مرطبات. كم هي لطيفة تسمية مرطّب لتوصيف «السم الهاري». باللغة الإنكليزية يروّج لجرعات السكر الملوّنة التي تباع بأحجام برميلية على أنها مشروبات ناعمة «soft drinks» مقارنة بالـ«hard drinks» الكحولية. في حروب الكولا العالمية، كانت ولا تزال الغلبة بشكل كبير لشركة كوكا كولا على حساب شركة بيبسي، لكن مقاطعة جامعة الدول العربية للعبوة الحمراء أبقتها خارج السوق العربية لأكثر من عشرين سنة، إلى أن بطلت موضة المقاطعة والإجماع العربي، وفتحت المجال أمام الكوكا كولا للمنافسة في عام 1991. وبما أن المتحاربين لا يملكون في هذه الحرب إلا الإعلانات، لكون «السمّ سم»، أكان أحمر أم أزرق (وبالمناسبة بيبسي ازرقّت مؤخراً إذ طالما تشاطر الأحمر والأزرق علامتها التجارية بالتساوي)، تشكّل رعاية المنتخبات الجامعة للوطن واحدة من أهمّ المداخل إلى قلوب الشعوب. وهكذا ولدت هذه الأغنية في سوق لا تملك فيه الشركة موطئ قدم، وبلد أنهى حربه الأهلية للتوّ:
نزلوا اللعّيبة عالملعب والشاطر قدامن يلعب
والحمّيسة وين ما كان، زقفة كبيرة للبنان
هيدا منتخب أبطال ورح بيطال اللي ما بينطال
ويقول اللي ما بينقال…نحن الكوكا كولا ونحن مع لبنان
أكاد أجزم بأن من كتب ولحّن هذه الأنشودة التي لا تزال عالقة في رؤوس أبناء جيلي، كتب ولحّن أناشيد أكثر من حزب متحارب في تلك الفترة، إذ يتشابه معظمها، لكن المهم في القصة أن كوكا كولا لم تنجح في إزاحة السمّ الهاري الآخر عن عرش الكولا في لبنان، ووصل بها الحال إلى أن هجرت السوق اللبنانية بالكامل العام الفائت. لكن لا تذرفوا الكثير من الدموع عليها، فالشركة تسيطر على نصف سوق المشروبات الغازية في العالم تقريباً، وهي سوق فاق حجمها الـ340 مليار دولار في عام 2015، ورغم هبوط سعر أسهمها من جرّاء نبذ قارورات القازوزة من قبل كريستيانو رونالدو الأسبوع الفائت، غير أن سعر هذا السهم لا يزال يسجل ارتفاعاً بنسبة تفوق 20٪ عن العام الماضي.
كانت فضيحة مصرفية بحجم المدينة كفيلة بنفي مرتكبيها إلى الناحية الأخرى من الكرة الأرضية


فشلت الكوكا كولا في كسب ود الجمهور اللبناني من خلال كرة القدم، لكن ملاعب لبنان شهدت محاولات أخرى لترجمة عشق الكرة إلى ما هو أبعد من المرمى، وكانت نسب النجاح والفشل متفاوتة في هذه المحاولات. فهناك من اشترى اتحاد الكرة وناديين كبيرين بالترغيب والترهيب، مدمّراً اللعبة في طريقه، فغاب التنافس المناطقي في دولة الاحتكارات والمحاصصة، وإن وجدت تجارب متواضعة لكسر ذلك الحكر جنوباً وشمالاً. وتبرز تجربة نادي أولمبيك أوائل الألفية، حيث اشترى «مصرفيّ» نادٍ وأنفق الملايين على استقطاب لاعبين، وأشيع أنه نقل مفهوم الاحتراف إلى المشجعين الذين كانوا يتقاضون بدلاً للتشجيع، قبل أن تطيّره فضيحة مصرفيّة إلى البرازيل التي يصادف أنها من أكثر البلاد عشقاً لكرة القدم. في الزمن الجميل للّعبة كانت فضيحة مصرفية بحجم المدينة كفيلة بنفي مرتكبيها إلى الناحية الأخرى من الكرة الأرضية، أما اليوم، فكل المصارف مدينة لمودعيها ولا ينتفِ أحد.
ومن بلاد اللعب الحلو «jogo bonito» مثال بسيط جداً عن كيف أن المال وفساده أفسدا اللعبة الشعبية الأولى. تصوّروا أنه في افتتاح مونديال 2014 في بلاد السامبا واللامبادا والكرنفال، تم توكيل تنظيم العرض الافتتاحي إلى مصممة رقص بلجيكية تربطها علاقة عائلية بأحد إداريي الفيفا. طبعاً أن يعلّم البلجيك البرازيليين الرقص هو من أصغر فضائح الفيفا التي فرضت على البرازيل تغيير قوانينها التي تخص منع بيع البيرة في المدرّجات، لأن، ببساطة، أحد رعاتها هو شركة «بدوايزر» الأميركية التي تنتج سائلاً لا فرق في طعمه ورائحته بين وقت دخوله جسم الإنسان ولحظة خروجه منه. ولعلّ أكبر فضائح الفيفا على الإطلاق هي استضافة قطر للمونديال القادم. خسر الآلاف من العمال الأجانب حياتهم في قطر في السنوات العشر التي انقضت، منذ أن منحت الفيفا شرف استضافة المونديال لبئر غاز. وثّق تقرير لصحيفة الغارديان العام الماضي أكثر من 6500 وفاة لعمال من 5 دول فقط، هي الهند وباكستان وبنغلادش وسريلانكا ونيبال، علماً بأن هنالك عمالاً من دول أخرى فقدوا حياتهم أيضاً. لكن المليارات التي أنفقتها قطر في دبلوماسية كرة القدم تطغى على هذه المجزرة، إذ شكّلت جزءاً ممّا مكّن الدولة الوهمية من الصمود أمام محاولة انقضاض ابن سلمان عليها في عهد ترامب، وبنت لها علاقات مع دول أوروبية نفخت قطر لها كراتها. مسلسل «The English Game» على نتفليكس يصوّر كيف تحوّلت لعبة كرة القدم من لعبة للأرستقراطيين إلى لعبة شعبية، وكيف دخل المال فيها ليفسدها مذّاك. العالم يعشق الكرة ولن يتوقف عن ذلك، لكن الجشع سوف يزيد وينزع عن حب اللعبة براءته ويغذي الحنين الدائم إلى «الزمن الجميل».
في الإعلان التلفزيوني المذكور أعلاه، تتكامل مدرجات ملعب برج حمود مع المباني المحيطة به التي تستضيف «الحمّيسة وين ما كان» على شرفاتها وأسطحها. التكامل مع المحيط يبرز أكثر في ملعب بيروت البلدي، حيث يضيف مدخّنو الأراكيل على الشرفات والمتسلقون على الأسوار حماسة إلى اللعبة لا يمكن استنساخها في الملاعب العقيمة التي تحبّذها الشركات العالمية الراعية لكرة القدم وشبكات البث الحصري. بلدية بيروت ترى في هذا العقار مشروع مرأب للسيارات، وهو بالمناسبة يبعد أمتاراً قليلة عن حيث قام يوماً ما مصنعٌ لمشروب سكريّ خسر حربه ولم يبقَ منه إلا نصف اسمه الذي بات مقروناً بموقفٍ لفانات وباصات النقل العام.