قبل 9 أعوام، خرج الرئيس السابق للاتحاد الأوروبي لكرة القدم الفرنسي ميشال بلاتيني بفكرة استضافة أكثر من مدينة أوروبية للبطولة القارية. لكن بين عام 2012 وعام 2021 تبدّلت الأمور كثيراً في العالم وفي أوروبا التي كادت تخسر بطولتها الأهم بعدما أُجبرت على تأجيلها في الصيف الماضي إثر تحوّلها الى بؤرة أساسية لتفشي وباء «كورونا».تسويق بلاتيني للفكرة وقتذاك كان الهدف منه منح الفرصة للكثير من البلدان الأوروبية للاستفادة من المردود الاقتصادي لاستضافة أكبر حدثٍ أوروبي على صعيد المنتخبات، وهو أمر لن يكون حاضراً اليوم في العديد من المدن الـ 11 المضيفة للمباريات، والتي لا تزال متأثرة بدرجاتٍ مختلفة بحضور «كورونا» فيها والإجراءات التي فرضتها الجائحة عليها.
بطبيعة الحال، تؤمّن كأس أوروبا مردوداً سياحياً كبيراً للمرافق في البلدان المضيفة، يضاف إليها طبعاً ما تحصل عليه الاتحادات الوطنية من عائدات بيع تذاكر الدخول الى المباريات. كما تنشط حركة السفر والطيران، وتنتعش فنادق ومطاعم ومقاهٍ وحانات المدن الحاضنة للملاعب لمدة 4 أسابيع. لكن مع توزّع هذه المدن على بلدانٍ مختلفة، أضحت استفادة هذه البلدان المادية محدودة ومغايرة كليّاً عن تلك التي عرفها المضيفون في النسخات السابقة.
ففي «يورو 2016» مثلاً، غنمت فرنسا 1.2 مليار يورو من عائدات البطولة مع وصول 600 ألف زائر الى البلاد، حيث قضى بحسب الدراسات كلٌّ منهم أقلّه 8 أيام، ليصرف 154 يورو كمعدلٍ عام في اليوم الواحد. ومن خلال عملية حسابية، تكون فرنسا قد ربحت مليار يورو بالتمام والكمال كونها لم تصرف إلا 200 مليون يورو على تحديث البنى التحتية وغالبيتها ارتبطت بالمرافق العامة لأن ملاعبها كانت في حالة تحديث دائم، فحافظت على معاييرها منذ استضافة البلاد لنهائيات كأس العالم عام 1998.
إذاً، أي بلدٍ اوروبي لن يحقق هذه المرّة ما ينشده، لا بل إن البعض أصيب بخسائر جراء تأجيل البطولة ومن ثم سحب الاستضافة من بعض المدن على غرار العاصمة الإيرلندية دبلن التي أصبحت خارج المعادلة بسبب الإجراءات القاسية الخاصة بالوضع الصحي، وهي التي كانت تنتظر وصول 90 ألف سائح على الأقل، الأمر الذي كان سيعود بمردودٍ على الاقتصاد بقيمة 106 ملايين يورو بحسب دراسة داخلية. أما بالنسبة الى البطولة التي سبقتها والتي أقيمت عام 2012 في بولندا وأوكرانيا، فإن البلدين دفعا ما مجموعه 31 مليون يورو لتأهيل المنشآت العامة، وقد حصدا بعدها فائدةً كبيرة منها، على غرار ما جناه البولنديون من تحديث المطار وخطوط القطارات وغيرها.
استثمرت فرنسا 200 مليون يورو لتربح ملياراً جرّاء استضافتها «يورو 2016»


الواقع أن البلدان التي تحتضن المباريات الآن لم تصل الى الأرقام التي كانت تتمناها، فهي تستضيف اللقاءات بصورة غير طبيعية، فهي كانت تعلم سلفاً أن ملاعبها لن تُفتح إلا لحوالى الـ 50 بالمئة من المشجعين الذين تقلّصت أعدادهم أصلاً بسبب عدم التقاء قسمٍ كبيرٍ منهم مع شروط السفر الخاصة بالجائحة أو بسبب تفضيلهم عدم الذهاب الى بلدانٍ لا تزال متشدّدة في مسألة العزل الصحي للمصابين على غرار العاصمة الإنكليزية لندن ونظيرتها الاسكوتلندية غلاسغو.
أضف الى هذه النقطة أن بعض المدن المضيفة استبعدت خلق مساحات خاصة لتجمعات المشجعين، وهو ما قلّص من الأجواء الاعتيادية وأبعد بالتالي الجماهير عن فكرة القدوم الى هذا البلد أو ذاك لعيش الأجواء الاستثنائية الخاصة بالبطولة.
إذاً، هي بطولة خاسرة بشكلٍ أو بآخر بالنسبة الى الكثيرين، لكن لا بالنسبة الى الاتحاد الأوروبي للعبة الذي حافظ على أرباحه ورفع من حجمها من خلال المكاسب التي أفرزتها حقوق النقل التلفزيوني والإعلانات، وهو أمر ليس بالغريب، إذ إن مقارنة بسيطة بين نسختَي 2012 و2016 توضح بأن عائدات «اليويفا» من الأولى كانت 500 مليون يورو، بينما ارتفعت في الثانية الى 847 مليوناً، ولا شك في أنها ارتفعت في النسخة الحالية (بانتظار الكشف عن الأرقام النهائية بعد ختامها) بسبب ارتفاع نسب المشاهدة بحُكم متابعة شريحة كبيرة من الأوروبيين للمباريات عبر شاشات التلفزة بعد عجزهم عن الدخول الى الملاعب أو السفر إليها.
لكن رغم كل شيء، تبقى إقامة البطولة مسألة مربحة على مختلف الأصعدة، فهي أولاً أخرجت أوروبا من حالة الكآبة التي عرفتها جراء موت مئات الآلاف بعد إصابتهم بالفيروس القاتل. أما ثانياً فهي أعادت الروح الى أهم بطولةٍ للمنتخبات في القارة وحافظت على تقاليدها. أما ثالث الأمور وأهمها أن هذه النسخة تعدّ بمثابة نفحة حياة في الملاعب التي فتحت الأبواب بشكلٍ جديّ لعودة الجماهير في مقدمةٍ لعودة اللعبة والحياة الى طبيعتهما في وقتٍ قريب، وليعود المشهد الأجمل لكرة القدم الى سابق عهده، حيث رسم المشجعون أجمل اللوحات في الطرقات والمدرجات.