قبل كورونا والكمامات واللقاحات والحجر والتباعد الاجتماعي، حين كان المنتخب اللبناني لكرة القدم يخوض المباريات على أرضه وبين جماهيره، كانت مسألة تشجيعه من عدمه موضع جدلٍ دائمٍ على مواقع التواصل الاجتماعي وفي جلسات المقاهي. الملعب يُقرّب المشجّع من اللاعب والمدرب وعضو اتحاد اللعبة ورئيسه. الجمهور يُصبح قادراً على إيصال صوته، مهما جاء في الموجة المتحرّكة في الهواء؛ مصطلحاتٌ تحفيزيّة، توجيه تعليماتٍ إلى الجهاز الفني واللاعبين وقيادة الفريق من المدرجات، أو إطلاق الشتائم...الفضاء كبيرٌ هناك، وحُرٌ أيضاً، أكثر من زحمة الأبنية المتلاصقة والشوارع الضيّقة والأسلاك التي تحجب السماء. وبعدما أصبحت الشاشة ـ تلفزيونية كانت أم عبر الهاتف ـ صِلة الوصل الوحيدة بين المشجّع وناديه أو منتخب بلاده، استمر الجدل بأساسه ولو تغيّر شكلاً، إلى نشر الـ«هاشتاغات» والتعليق على صور اللاعبين عبر حساباتهم الشخصية، وإبداء الرأي في مساحةٍ افتراضيةٍ واسعةٍ أيضاً، ولو أنّها أقل ضيقاً على صعيد الحريّة.
أسباب عدم تشجيع المنتخب الوطني موجودة، وهي عديدة. وفي الواقع، لا تختلف غالباً بين بلدٍ وآخر. وفي حين ينطلق بعض المشجعين من مبدأ «الحس الوطني»، وواجب دعم كل ما يربطهم تاريخيّاً بالأرض والشعب، ثمّة من يسأل عن مفهوم الوطن؟
كثيرون يتعاملون مع البلد من جانب «اعطيني لأعطيك»، وأن المنتخب مُنتَج من السلطة السياسية، وكأنّه مؤسسة عامّة. يُصبح التمرّد على كل ما يمثّل البلد شكلاً من أشكال الرفض للدولة. وفي المقابل، ثمّة من يرى أن المنتخبات تمثّل الأوطان لا الحكّام. اللاعبون، اللبنانيون، وفي كرة القدم خاصةً، من الشعب أيضاً. الفكرة ليست في أنّهم يُشبهون الناس؛ هم منهم. من الطبقة الفقيرة عينها. لا فارق إلّا في طبيعة العمل. وثمّة من يُحجّم المسألة أكثر، ليأخذها نحو تمثيل المنتخب، لاتحاد اللعبة. بالنسبة إلى كثيرين، الاتحاد هو عدو اللعبة، لكن الأهم، أنّه عدو الأندية، بنظرهم. المشجعون المتعصّبون لأنديتهم، يرفضون تشجيع أي «كيانٍ» آخر. وفي حين يرون أن أنديتهم تتعرّض لظلامةٍ من الاتحاد، ويُشجّعهم على هذا التفكير بعض رؤساء هذه الأندية وإدارييها، وجب الانتقام ممّا يُمثّل السلطة الرياضية. المشجعون المتعصّبون تهمّهم الأسماء. يعرفون من يلعب للمنتخب، وبعض هؤلاء، أو معظمهم، ليسوا من أنديتهم، وعليه، ماذا لو فاز الفريق بهدفٍ للاعبٍ من نادٍ منافس؟ وكيف للمنتخب أن يبدأ المباراة بتشكيلةٍ أساسيّةٍ يغيب عنها نجوم أنديتهم؟ إشكاليةٌ كبيرة. لكن الازدواجية اللبنانية تكمن في قلّة وجود مشجعين متعصّبين أساساً. جماهير الأندية اللبنانية لا تُشبه نظيرتها في صربيا وكرواتيا والأرجنتين مثلاً... لا مجموعات شديدة التنظيم هنا. والبعض يقول لا «عصابات كروية» مدمنة على التشجيع. التعصّب لنادٍ ما يرافقه عدم الاعتراف بأي كيانٍ آخر، في حين أن اللبنانيين يتفاخرون بتشجيع منتخباتٍ أوروبيةٍ ولاتينية. حكومات تلك الدول لا تتدخّل في تحديد مصيرهم، أو هكذا يظنّون. كما أن جماهير تلك المنتخبات، أو الأندية، ليسوا من المنافسين. حُلّت المشكلة...

الجمهور سياسي
لا تنتهي أسباب عدم تشجيع المنتخب هنا. قد يكون السبب أكثر بساطةً. وهو أن أحداً لا يُريد الفشل. في حالة منتخب لبنان لكرة القدم، الإخفاقات تُعد صديقةً مرافقةً له. لم يتأهّل إلى كأس العالم، ونادراً ما يُشارك في كأس آسيا. لا كأس حُفر عليه اسمه ولا ميدالية وُضعت على صدور اللاعبين. ليس من أفضل منتخبات القارة. خيبة تصفيات كأس العالم 2014، التي رافقتها أزمة المراهنات، وما اعتُبر «خيانة» من بعض اللاعبين للمشجعين، ترك أثراً أيضاً.
قد يبدو الأمر طبيعياً بالنسبة إلى بلدٍ آخر، كسنغافورة أو ماليزيا وتايلند، التي تحظى منتخباتها بدعمٍ جماهيريٍّ كبير، على الرغم من مستواها المتواضع، لكن المفارقة تكمن في أن هؤلاء يشجّعون منتخب بلدهم أوّلاً، في حين انقسم اللبنانيون على تشجيع منتخباتٍ أخرى: مصر خلال ولاية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وبعده في المقاومة العربيّة. فرنسا و«صداقتها» مع جزءٍ من اللبنانيين خلال الاستعمار وبعده. البرازيل وتغييرها شكل اللعب الإنكليزي الكلاسيكي. الأرجنتين ومارادونا. إيطاليا وألمانيا. وصولاً إلى إيران والسعودية وتركيا والصراع السياسي والديني. الجمهور اللبناني غالباً ما يتأثر بالمناخ السياسي، وهذا أوصل الأمور الى ما هي عليه اليوم.
المشجعون المتعصّبون لأنديتهم، يرفضون تشجيع أي «كيانٍ» آخر


في الواقع، هذه المسألة موجودة في بلادٍ عديدة. العلاقات التاريخية بين إنكلترا من جهة، وويلز واسكتلندا وأيرلندا الشمالية من جهةٍ أخرى، شهدت العديد من الحروب، وإلى اليوم، يمتنع مواطنو أقاليم المملكة المتحدة عن تشجيع المنتخب الإنكليزي. قد يبدو الأمر طبيعياً، نسبةً إلى أن كل إقليم دولة بحد ذاتها، ولو أنّها تُعتبر جزءاً من الأرض المكوّنة للمملكة، لكن الأمر يتعدّى عدم تشجيع إنكلترا، المنتخب الأنجح في المملكة، بل يصل إلى مرحلة الكره المطلق بالنسبة إلى بعض المشجّعين، ومساندة أي منتخب يواجه «الأسود الثلاثة». الإعلام يلعب دوراً أيضاً؛ يدّعي أن بريطانيا فعلت هذا وبريطانيا تأهلت إلى ذاك، حين يكون الأمر متعلّقاً بإنكلترا فقط. المشكلة تكبُر عندما يُصوّر الإعلام المنتخب الإنكليزي كأحد أفضل المنتخبات في العالم، ويحاول تذكير كل من على هذا الكوكب، بأن بريطانيا هي مهد كرة القدم، ثم، كما في كل استحقاق، يأتي الفشل. أحد لا يريد أن يُنسب الفشل إليه.
تبقى العنصرية أهم أسباب عدم تشجيع المنتخب الإنكليزي. الأحد الماضي، أطلق بعض المشجعين الإنكليز في ملعب ريفرسايد، في مدينة ميدلزبره، صفارت الاستهجان ضد اللاعبين، بسبب ركوعهم قبل انطلاق المباراة. الحركة تدل على مناهضة العنصرية، وبدأت منذ أكثر من سنة، لكنّها لا تزال تُسبّب الجدل في الملاعب الإنكليزية.
العديد من جماهير نادي ليفربول الإنكليزي، مثلاً، يعتبرون أنفسهم ليسوا من الإنكليز. قبل عامين، أطلقت الجماهير صفارات الاستهجان خلال عزف النشيد الوطني الإنكليزي في مواجهةٍ مع مانشستر سيتي. ثمّة من يعتبر أن أهل المدينة جاؤوا قبل مئات السنوات من إيرلندا وسكنوها. وهنا نعود الى الأصل، وما يتم الحديث عنه هنا، أي الجدل المستمر حول الأصل اللبناني. وفي هذه النقطة يجب العودة الى كلام المدرب الراحل عدنان الشرقي، الذي قال في مقابلة تلفزيونية قبل سنوات قليلة، إنه لولا السياسة في لبنان لما كان هناك كرة قدم، وإن كل ناد لبناني مدعوم سياسياً، وبالتالي فإن الانقسام موجود في هذه البلاد منذ تأسيسها، وكل فرد يريد الانضمام الى دولة، ولا يريد الدولة اللبنانية.
في سوريا لم يختلف الوضع كثيراً بعد عام 2011. المنتخب كان قريباً من التأهّل إلى كأس العالم في روسيا للمرة الأولى في تاريخه، لكن عدداً لا بأس به من السوريين، المقيمين في البلد والمهاجرين، رفضوا تشجيع منتخب بلدهم، معتبرين أنّه يمثّل النظام المعترضين أصلاً على وجوده. هنا كانت السياسة السبب الرئيسي في الخلاف. النظام اتّخذ المنتخب واجهةً له بحسب البعض. أساساً، بعض اللاعبين امتنع عن تمثيل المنتخب للسبب عينه، قبل أن يعدل عن قراره، وعودته لم تأتِ إلّا بعد زيارةٍ للرئيس.
لا أحد يفرض على الناس مساندة منتخب بلدهم، ولو أن سياسة الفرضِ في لبنان أمرٌ طبيعي. لكن عدم مساندة المنتخب شيء، وتشجيع منتخباتٍ منافسةٍ شيءٌ آخر، خاصة في مناسبات رسمية وتصفيات حساسة. ثمّة حدودٌ للمعارضة، كما هناك أخلاقيات في اللعبة أيضاً، ولا جدل هنا في تعريف هذا الأمر...