لطالما كان هناك اتهام لرياضة الفورمولا 1 بأنها أكثر الرياضات تسبّباً بالتلوث في العالم. وهذه المسألة لا بسبب المحروقات التي تخرج من السيارات، بل بسبب حجم رحلات السفر التي تقطعها الفرق ويعيشها المشجعون من أجل التنقّل من بلدٍ إلى آخر حيث تجوب السباقات القارات المختلفة.العبارة الأخيرة تختصر أمراً واحداً، وهو تحقيق الأرباح المالية أينما وُجدت الأرض الخصبة. ولهذا السبب ومنذ نشأتها ذهبت بطولة العالم للفئة الأولى لتبحث عن أوسع رقعة جغرافية لإقامة سباقاتها، وهي تحوّلت في العصر الحديث الى رياضة تجارية بامتياز مع مالك حقوقها السابق البريطاني بيرني إيكليستون، الذي يعدّ «عراب» الانفتاح على أسواقٍ جديدة حملت أرباحاً كبيرة الى جميع الناشطين في أسرع رياضة في العالم، وخصوصاً بعدما حطّت طائرات الفرق في مطارات البلدان العربية وبلدانٍ جديدة في الشرق الأقصى، أرادت بدورها التسويق لنفسها سياحياً وجني أرباحٍ من الرياضة الشعبية.
لكن كل هذا تبدّل عشية انطلاق موسم 2020، فكانت الفورمولا 1 هي المتأثرة سلباً هذه المرّة، فإذا كانت يوماً عدوةً للبيئة، فإن وباءً أصابها في مقتلٍ، وباتت اليوم تحاول الوقوف على قدميها لترسم طريقاً جديداً نحو مستقبلٍ أفضل.

خسائر بالجملة للجميع
ساعات كانت تفصل الفرق والسائقين عن الضوء الأخضر لانطلاق موسمٍ جديد من حلبة ملبورن في أوستراليا، لكن هناك ظهر قرار إلغاء السباق مع ظهور أعراضٍ على أعضاء في فرقٍ معيّنة، تبيّن لاحقاً أنهم أصيبوا بـ«كورونا». صحيحٌ أنه بعد أوستراليا اتُّخذت قرارات بتأجيل أو إلغاء سباقات، لكن سباق ملبورن هو من تلقى الخسارة الأقسى، إذ أن كل التحضيرات كانت قد اكتملت لإقامة الجائزة الكبرى.
ولم يخرج المنظمون حتى الآن برقمٍ نهائي لحجم الخسائر المالية التي تعرّضوا لها، لكن لا شك في أن المتأثر الأكبر على هذا الصعيد كانت الشركات المسوّقة للسباق التي تكبدت مصاريف كثيرة، لكنها بدأت اليوم عملية ردّ المبالغ التي دفعها المشجعون لحضور السباق الملغى.
وفي سياقٍ متصل، ضربةٌ أخرى لمنظمي السباق من ناحية العقود الإعلانية التي لا يمكن تنفيذها وقبض مبالغها في حال الإلغاء، وذلك بعكس حقوق النقل التلفزيوني التي تُدفع سلفاً، والتي خلقت مشكلةً إضافية للحكومة الأوسترالية ومن خلفها منظمي الحدث.
وهذه المسألة يمكن التوقف عندها أيضاً بحُكم التأكد من تقلّص عدد السباقات الموجودة على الروزنامة السنوية التي كانت ستقدّم موسماً قياسياً بوجود 22 سباقاً.
المعادلة بسيطة: سباقات أكثر أي إعلانات أكثر، وبالتالي مردود أكبر، وهو أمر لن يحصل مع التوقعات بإقامة بين 15 و18 سباقاً في موسم 2020، وذلك في حال انطلاقه.

معاناة السائقين والفرق
الخسائر في أوستراليا أصابت الفرق أيضاً، فهي كانت قد تكبّدت مصاريف السفر، وعليها أن تلتزم باتفاقاتها مع العاملين معها لناحية دفع مستحقاتهم حتى لو ألغي السباق. وهذه الخسائر تأتي في موسمٍ كانت تنتظر فيه الفرق أرباحاً قياسية يمكنها أن تفيدها في استراتيجياتها لموسم 2021 الموعود حيث ستحضر التعديلات الكثيرة على صورة هذه الرياضة، وبالتالي تحتاج الفرق العشرة إلى أكبر ميزانية ممكنة لإصابة أكبر تطوير ممكن.
ولا يمكن إبعاد السائقين عن دائرة الخسائر، فهم أيضاً ستتأثر عقودهم في حال انخفاض عدد سباقات البطولة أكثر، أو تعثر انطلاق الموسم. وهذه النقطة تحديداً قد تعيد بعضهم سنواتٍ الى الوراء، علماً أن أقل رواتب أبرز السائقين تصل الى 8 ملايين دولار، وترتفع الى 15 مليون في حالة ابن إمارة موناكو، سائق فيراري شارل لوكلير، الذي وقّع عقداً جديداً، بينما تصل أرباح زميله الالماني سيباستيان فيتيل الى 30 مليون دولار في الموسم الواحد، وبطل العالم البريطاني لويس هاميلتون، سائق مرسيدس، الى 35 مليوناً.
تصل أرباح بعض السائقين في الفئة الأولى إلى 35 مليون دولار


إذاً السنة الحلم لمحبي إسرع رياضات العالم، تتحوّل الى كابوسٍ حقيقي بالنسبة الى المنظمين والفرق، فشركة «ليبرتي ميديا» الأميركية المالكة للحقوق التجارية كانت تنتظر قطف ثمار عملها في دخول أسواقٍ جديدة باعتماد بلدٍ مثل فييتنام لإقامة سباق هناك. الشركة الساعية الى الظهور بصورةٍ قوية كانت قد أصرّت على هذا السباق بالتحديد ولو انها أكملت العمل الذي بدأه إيكليستون، فالسباق الفييتنامي على حلبة الشوارع كان سينقل البطولة الى مستوى أعلى من الإثارة، ويؤكد ان خطة «ليبرتي ميديا» لإظهار أنها ناجحة في جذب بلدان جديدة تعيد بالفائدة على الجميع، لكن لسوء حظّها كان هذا البلد الجديد آسيوياً، ما يعني أن السباق تبخّر عملياً بعد تفشي وباء «كورونا» في القارة الصفراء.

سباقات لا غنى عنها
لكن السباق الفييتنامي لم يلغَ كليّاً بحسب المعطيات، وهو الأمر عينه الذي ينطبق على جائزة الصين الكبرى التي تستضيفها حلبة شنغهاي (تبعد 800 كلم عن مدينة ووهان مركز تفشي الوباء)، حيث لا يمكن للقيّمين على الفورمولا 1 تحمّل حجم الخسائر الناتجة عن إلغاء السباق الصيني تحديداً.
وهذه المسألة تنطلق من قيمة المبلغ الكبير الذي تدفعه فييتنام والصين للحصول على شرف الاستضافة، ووصل مجموع القيمة المالية التي تدفعها البلدان لهذه الغاية الى 602 مليون دولار، علماً ان معدّل قيمة الحصول على الاستضافة تصل الى 28.7 مليون دولار عن كل سباق، بينما أشارت دراسة مالية متخصصة الى ان خسائر الفورمولا 1 بعد الأحداث الأخيرة ستصل الى 84.3 مليون دولار في نهاية الموسم.
هو رقمٌ يرجّح أن يتبدّل للاسوأ في حال استمر الجمود الذي وصل الى أوروبا مع إلغاء سباق باكو في أذربيجان ذي القيمة الاقتصادية الثقيلة أيضاً. هو أمر ربما مفاجئ للبعض، وخصوصاً الذين اعتبروا أن الفترة لا تزال بعيدة حتى شهر حزيران المقبل أي الموعد المقرر للسباق. لكن الواقع أنه مع تحوّل لأوروبا الى بؤرة للوباء ووجود 7 فرق في إنكلترا، 2 في إيطاليا، وآخر في سويسرا، تبدو الأمور صعبة لناحية التنقّل بين البلدان، ومنها الموبوءة حيث مقرّات الفرق أصلاً.
وفي هذا الاطار يشرح معلّق ومحلّل قناة «mbc» خليل بشير المقيم في العاصمة الإنكليزية لندن قائلاً لـ«الأخبار»: «تحتاج أوروبا الى وقتٍ غير قصير لتنظيم أطر السفر بين البلدان، وبعكس ما يقال إن البطولة ستنطلق في كندا، أنا أتوقع أن تنطلق على حلبة بول ريكار في فرنسا، وسيكون التحدي الكبير هو الوصول الى 18 سباقاً، لذا أعتبر أن إقامة 15 سباقاً سيكون أمراً أكثر واقعية». وأضاف: «هناك كلام عن إقامة سباقين على حلبة واحدة مثل حلبة صخير في البحرين او مرسى ياس في ابو ظبي، لكن كل هذا لا يزال في إطار الأفكار المطروحة لإنقاذ الموسم وتقليص حجم الخسائر».
واعتبر السائق السابق في بطولة «آي وان» ومدير برنامج الاتحاد الدولي (فيا) لتطوير السائقين الناشئين في الشرق الأوسط: «صحيح أن الخسائر كبيرة لكنها لا شك أقل من رياضات أخرى مثل كرة القدم بحكم عقود النقل التلفزيوني الأعلى قيمة مالية في اوروبا حيث تقام المباريات اسبوعياً وتباع تذاكرها التي تعود بأرباحٍ ضخمة على الاندية».
اذاً «كورونا» قال كلمته للفورمولا 1، فكان أسرع منها ليعطّل موسمها قبل أن يبدأ، لكن بوادر الإنقاذ لا تزال حاضرة في حال بدأت البطولة مطلع الصيف على أبعد تقدير، حيث قد يتمّ اللجوء الى تقصير نهاية الأسبوع أي إجراء التجارب الرسمية يوم السبت والسباق الأحد مقابل إلغاء التجارب الحرة المخصصة يوم الجمعة، وبالتالي ستكون هناك مرونة في السفر أسبوعياً لإقامة سباقات متتالية وفي فترات زمنية متقاربة حتى لو اضطر الأمر إلى إقامة بعضها من دون جمهور.