مهّد ماوريتسيو ساري الطريق لوقتٍ طويل من أجل القيام بخطوته الشجاعة بالانتقال للإشراف على يوفنتوس. هي خطوة شجاعة فعلاً لأن من يعرف مدى «الحقد» الذي اختزنه هذا المدرب في داخله أيام كان على رأس الجهاز الفني لنابولي، يعرف تماماً مدى صعوبة قبول الفكرة التي أقدم عليها. هو كما كل فرد من فريق نابولي وجمهوره كره «اليوفي» بكل ما للكلمة من معنى، ولهذا السبب كان قد بعث برسالة الى مشجعي النادي الجنوبي، مشيراً فيها الى تقبّل قراره على اعتبار أن ظروف الحياة تتبدّل بين يومٍ وآخر. ولكن جمهور الجنوب لم يتقبل الفكرة، فرد عليه بفيديو مصور، يستهزئ من انتقاله الى الـ«يوفي»، ويقول له «حتى لو فزت بالدوري، فإنك لن تحصل على 91 نقطة كما فعلت معنا».ظروف ساري تبدّلت كثيراً منذ وصوله الى الدوري الإنكليزي الممتاز، فهناك في تشلسي توقّع شيئاً ووجد أشياء أخرى، ما ساهم في قراره بالرحيل في نهاية المطاف. والأمر عينه ينطبق على جمهور «البلوز» والمراقبين الذين انتظروا منه تقديم فريقٍ مختلف عمّا قدّمه طوال موسمٍ صعب.
الواقع أن تقييم موسم ساري مع تشلسي لا يمكن وصفه بالفاشل تماماً، إذ كان من الجنون التفكير بأن الإيطالي سيخطف لقب الدوري في موسمه الأول مع فريقٍ بحاجةٍ الى الترميم، وفي مواجهة فريقين مستعدين للمنافسة أكثر منه أي مانشستر سيتي البطل، وليفربول وصيفه، والدليل عدد النقاط الكبير الذي حصده كلٌّ منهما، والفارق الذي جعلهما يقفان أمام تشلسي ثالث الترتيب العام.
أضف إن النادي اللندني مرّ بمراحل مضطربة خلال الموسم، منها ما يرتبط بالعقوبة التي وُقّعت عليه من قِبَل الاتحاد الدولي بسبب مخالفته قواعد التعاقد مع لاعبين دون السن القانونية، ومنها ما يخصّ النجم الأول للفريق أي البلجيكي إيدين هازار، الذي حُكي عنه في الصحافة الإنكليزية أكثر مما حكي عن الفريق برمته طوال الموسم، حيث كان العنوان دائماً مسألة انتقاله الى ريال مدريد الإسباني، وهو ما حصل قبل أسابيع.
في الشق الأول، وجد ساري أن من الأفضل بالنسبة إليه القفز من المركب قبل غرقه، إذ إنه سيكون أمام مهمة مستحيلة بكل ما للكلمة من معنى في الموسم المقبل، على اعتبار أنه يحتاج الى المزيد من التدعيمات، لكن من الصعب القيام بها إذا لم تُرفع العقوبة عن الفريق الممنوع من إجراء التعاقدات، ما جعله يشعر بأنه «قائد لجيش غير مسلح» وهو في الطريق الى معارك أقسى من تلك التي عرفها في الموسم المنتهي.
لا يمكن وصف موسم ساري مع تشلسي بالفاشل تماماً


أما في الشق الثاني، لا يخفى أن رحيل هازار هو ربما أصعب من الظرف القاهر الذي يمرّ به النادي اللندني، كون النجم المميز هو الأبرز على الإطلاق بين لاعبي الفريق، والوحيد القادر غالباً على صناعة الفارق على أرض الملعب، والأكيد أنه سيصعب تعويضه بلاعبٍ يتمتع أقله بنصف إمكاناته.
وإلى هذه الأسباب، برز سببٌ آخر وهو شعور ساري بالشيء نفسه الذي عاشه مواطنه أنطونيو كونتي والبرتغالي جوزيه مورينيو سابقاً، أي حالة الاضطهاد التي يفرضها جمهور تشلسي والنقاد في إنكلترا، عند عدم رضاهم عن جو الفريق أو إذا صح التعبير مستواه على أرض الملعب. وهنا بدأت المشكلة أصلاً، إذ انتظر الكل من ساري أن يقدّم فريقاً هجومياً على صورة ذاك الذي قدّمه في نابولي. فريقٌ ممتع بتمريراته القصيرة وإجادته اللعب السريع وتبادل المراكز، وطبعاً الضغط العالي الذي يسمح له بالاستحواذ في معظم فترات المباراة.
طبعاً حاول ساري تطبيق فلسفته ولو أن أسلوب بعض اللاعبين الموجودين في الفريق لم يكن يتناسب مع ما يريده، ولهذا السبب استقدم لاعبين معيّنين مثل لاعب الوسط جورجينيو مثلاً، ومن ثم المهاجم الأرجنتيني غونزالو هيغواين. لكن رغم ذلك، طاولته الانتقادات بشدّة بسبب غياب المتعة الهجومية والشراسة الدفاعية عن رجاله، ما وضع ضغطاً كبيراً عليه وجعله يشعر فعلاً بأن إمكانية التغيير ستكون صعبة، ولو أنه حاول مراراً تغيير مراكز البعض لتجميل الصورة، وهي مسألة اعتبرت من الأخطاء التي وقع فيها خلال ولايته في «ستامفورد بريدج».
إذاً، الحلم الإنكليزي تحوّل الى جحيم ولو أنه لا يمكن وصف موسم الرجل بالفاشل، فهو في نهاية المطاف حمل لقب «يوروبا ليغ»، وبلغ المباراة النهائية لكأس رابطة الأندية الإنكليزية المحترفة ولم يخسرها أمام مانشستر سيتي سوى بركلات الترجيح. واللقب القاري كان كافياً لتمسك الإدارة به، وهو أمر قيل إنه محسوم، لكن نار الصحافة الإنكليزية وقسم كبير من الجمهور لم تنطفئ، فكان خروج ماسيميليانو أليغري من مقعد المدرب في نادي «السيدة العجوز» الخلاص بالنسبة الى ما وُصف يوماً بـ«الخصم الأزلي» ليوفنتوس.
الحقيقة، محظوظ ساري لتكون خشبة الخلاص بالنسبة إليه فريق سيطر على الكرة الإيطالية في الأعوام الثمانية الأخيرة، وفريق جاهز بكل ما للكلمة من معنى لحصد لقب «السكوديتو» مرة جديدة، وطبعاً للمنافسة في أوروبا وإنهاء الصيام الطويل المرتبط باللقب القاري. وعند هذه النقطة توقف الطرفان بلا شك، إذ إن «اليوفي» اقتنع أخيراً بأنه أصبح بحاجة الى التغيير وجلْب مدربٍ يمكنه قيادته الى المجد القاري بعدما أخذ اليغري فرصته كاملةً على هذا الصعيد. والأكيد أكثر أن ساري عرف في قرارة نفسه أن فرصته الوحيدة لتقديم نفسه كمدربٍ كبير ولينضم الى عظماء الكرة الإيطالية، هي في تدريب الفريق الأفضل في بلاده.
هناك في تورينو لديه أفضل اللاعبين المحليين من مخضرمين وصاعدين، ولديه أيضاً نجم كبير هو البرتغالي كريستيانو رونالدو. هناك لن يتكبد عناء التفكير طويلاً في كيفية النجاح إذا ما عرف وضع الأسس الصحيحة منذ البداية، وأقله طبعاً سيكون مرتاحاً نفسياً حيث لن يكون عليه أن يستفيق في كل صباح ويفكّر في الأمر عينه، على غرار ما كان يفعل أيام تدريبه لنابولي (على حدّ قوله في أول مؤتمر صحافي له)، وهو «ما هي الطريقة لأهزم يوفنتوس؟».