كان هناك ليلة أول من أمس. حمل حقيبة سفره واتّبع آثار قدمين قادتاه يوماً الى تلك المدينة المستريحة، حينها، على جبل الأحلام. كيفما حلّ وارتحل، تبقى هذه الخطى هي السبيل الوحيد الى حيث يفرح الفؤاد ويعود الشباب أزهى وأجمل، الى حيث يستريح الجسد، هنيهة، من تعب السنين ويأخذ الفكر قيلولة في زحمة الرحلات والارتباطات التسويقية التي تزيدها ربطات العنق ثقلاً وتكلفاً لمن علق في ذاكرتنا شاباً طليقاً على العشب الأخضر.كم أنتِ مدهشة نابولي. ما سرّك في أن تعيدي، وحدك، لنا هذا الهرِم طفلاً، كأنه للتو يركل الكرة في أزقة بوينوس آيريس ويراقصها «التانغو» في لانوس، حيث الولادة والذوبان بتلك الساحرة المستديرة التي عزفتها قدمه اليسرى الذهبية ألحاناً وأنغاماً؟

كم هي كثيرة الصور التي تأتينا يومياً لدييغو أرماندو مارادونا بسترته الرسمية وهو في هذا البلد وذاك، وبين هذه الجموع وتلك، إلا صوره في نابولي يبقى لها سحر خاص، ووقع مختلف، وتتجسد فيها السجية بعينها.
ثمة ما بين هذا الأرجنتيني وهذه المدينة الإيطالية علاقة أزلية لا يمكن أن يستوعبها عقل، وأبداً تهتز المشاعر لمدى عمق معانيها بين شخص ولد بعيداً بآلاف الأميال خلف المحيط، ومدينة لا تزال ترتوي حتى الآن من نبع فجّره دييغو ذات حقبة مجيدة من تاريخ كرة إيطاليا في ملعبها التاريخي «سان باولو»، ولم، ولن ينضب يوماً.
كأن مارادونا استودع سره في هذه المدينة، وهي، في المقابل، سلمته، وحده، مفتاح الدخول الى قلبها. وحدها نابولي تعرف كيف تعيد لهذا الأرجنتيني، مهما تقدّم في السن، نضارة شبابه. ووحده، في المقابل، مارادونا، يعرف كيف يزرع الابتسامة على ثغرها.
لا تشبع نابولي من مارادونا، ولا يزهو دييغو إلا في نابولي. منذ رحيله عنها في أوائل التسعينيات مخلّفاً أسطورته التي بزغت ونمت وسطعت أيما سطوع في ملعبها «سان باولو»، تردد «الولد الذهبي» غير مرة على مدينته الأزلية، إلا أنه، وفي كل زيارة، يبدو كمن يحل على نابولي للمرة الأولى بعد غربته الأطول والأقسى عنها. عيناه تراهما تحكيان هذا، كما عيون سكان المدينة الهائمة بعشقه.
أول من أمس، كان اللقاء من جديد. من لم يفارق القلوب يوماً في نابولي أصبح أمام الأعين للحظة... يا لها من لحظة!
على حين غفلة، وبين شوطي مباراة نابولي وروما في إياب نصف نهائي كأس إيطاليا، فاجأ مارادونا الحشود في ملعب «سان باولو». كادت أرض هذا الأخير أن تقفز من ثباتها لتحتضن من سقى يوماً بسحر قدمه اليسرى الذهبية عشبها الأخضر. كادت مدرجاته أن تطير من مكانها لتزرع قُبلة على رأس من جعلها يوماً قِبلة لعشاق الكرة، وكذا كرنفالاً للفرح الأكبر.
أيصدّق العقل أن مارادونا عاد فقط الى نابولي لتسوية مسائل ضريبية عالقة منذ الثمانينيات؟ لا، قطعاً هذا كلام صحف لا أكثر. انظروا إليه كيف كان يحتفل بأهداف فريقه ليلة الأربعاء. كيف كان، كطفل، يقفز من مكانه ويحتضن من يحيطون به ويرفع يديه ليحيّي أنصاراً تجمهروا حوله ليلتقطوا صوراً يؤرخونها في ذاكراتهم قبل ذاكرة هواتفهم. لهذا السبب، جاء دييغو... ليتنشق هواء نسيم نابولي، ليستزيد منه فائضاً يحمله في حقيبته عندما يكمل ترحاله في بلاد العالم. فمن هذا الهواء، وحده، يبقى قلب أسطورتنا ينبض حياةً.




دموع الأسطورة

أبدى مارادونا امتنانه الشديد لجماهير نابولي بسبب الاستقبال الحافل الذي لقيه منهم في ملعب «سان باولو» خلال المباراة التي تابع شوطها الثاني بين نابولي وروما، بحسب ما نقل عنه محاميه، الذي أضاف: «كان تأخيرنا بسبب الجماهير الكثيرة التي أرادت احتضانه. دموع دييغو وكذلك مصافحته واحتضانه لأوريليو دي لورينتس (رئيس النادي) أظهرت فرحته».