لا ينكر آرسن فينغر المدرب السابق والتاريخي لنادي أرسنال الإنكليزي الجهد الكبير الذي بذله والده عندما كان صغيراً. يقول المدرب الفرنسي عنه كلمات تعني له الكثير: «لقد غرس قيم العمل الجاد والصدق في داخلي عندما كنت طفلاً». ترعرع المدرب الأشيب في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، يساعد والده في محل «بيسترو» لبيع المشروبات الغازية والكحولية.
نشأة فنغر في ستراسبورغ (أرشيف)

دائماً ما أحب فينغر مشاهدة الفرق الألمانية وتأثّر بها كثيراً (وهذا ربّما ما يبرر الجدّية التي يظهر بها اليوم على مقاعد البدلاء). كان ذكياً في مدرسته، ويحب كثيراً لعبة «الشطرنج»، اللعبة التي تعتمد وبشكل كبير على البعد الإستراتيجي لأفكار كل من يلعبها. لقد كان إنساناً استراتيجياً منذ صغره، وتمتّع بسهولة استخدام أفكاره المنهجية والعلمية للحصول على علامة أفضل من صديقه، أو في أن يهزم خصمه في لعبة «الشطرنج».
لم يتغيّر. ما زال يقضي أغلب أوقات فراغه في «البيسترو». يقرأ عن كرة القدم، ويحلل بطريقته الخاصّة سلوك المشجعين، ويسأل نفسه أسئلة كثيرة. لماذا يقضي المشجعون ساعات وساعات في مشاهدة المباراة تلو الأخرى؟ يدرس ما يعجب المشجعين، وما لا يعجبهم. بنظر فنغر، كان اللاعب الذي يلفت أنظار المشجعين هو مفتاح اللعبة، وهو الأساس الذي يجب أن تبني الفريق من حوله: «النتيجة ليست مهمّة، بل إن العمليّة والأداء الجماعي في الملعب هو الأهم». هذا أحد أبرز أقوال فنغر، والتي يعلمها الجميع. شاهده الكثيرون يطبّقها كل يوم مع فريق حياته أرسنال، وهذا ما ادّى ربما إلى تراجع أداء الفريق اللندني في فترة من الفترات. هذه «النظرية الفينغرية»، تبقى سلاحاً ذا حدّين. هل يكفي «اللعب الجميل»؟
اعتمد المدرب الفرنسي الكبير في أرسنال على العلوم بدلاً من التقاليد في المقام الأوّل، وكان ذلك في ما يتعلّق بتطوير أجساد لاعبيه لأفضل شكل ممكن. يكره الكحول، على الرغم من أن تربيته كانت ضمن متجر أبيه «البيسترو» لبيع المشروبات، إلّا أن موقفه من الكحول والمواد الكحولية سلبي جداً. يقول فنغر: «عندما كان عمري 11 عاماً، كنت أشاهد إحدى مباريات كأس الاتحاد الإنكليزي في 1961، كنت في الحانة، ورأيت تأثير الكحول على الإنسان بأمّ عيني، وهذا ما يجعلني أرفض أو أمنع لاعبي فريقي من شرب الكحول». كان صارماً من ناحية النظام الغذائي للاعبيه، فيعتبره هو الأمر الأهم، في وصول اللاعبين إلى أفضل نسخة منهم. إلى جانب الكحول، طلب آرسين فينغر من «الكافيتريا» الخاصة بنادي أرسنال، بالتوقّف عن تقديم «البرغر» ورقائق اللحم، واستبدالها بالأسماك أو الدجاج والخضار. في أوّل أيامه مع الـ«مدفعجية»، طالب المدير الفني الفرنسي الجديد للفريق حينها، بأن يكون لدى الفريق أخصائيين في التغذية، إضافة لطلبه بجلب أحدث معدّات اللياقة البدنية. يتحدّث لي ديكسون، اللاعب السابق لأرسنال عن أول لقاء كان بينه وبين فنغر المدرب الجديد: «أتذكّر توني آدامز وأنا، في أول موسم لنا تحت قيادة فنغر، أمرنا بعدد ساعات محدود من الرّكض، تفاجأنا، ولكن بعد عشرة أيام، أخرجنا كل ما لدينا من طاقة، وانطلقنا في الموسم وحققنا لقب الدوري، هذا الرجل (فنغر) يعرف ما يتحدّث عنه وما يأمر به». كلمات ديكسون توضح كم أن فينغر كان المدرب مسكوناً بالقلق من الناحية الصحية، بل إنه كان صارماً وكأنه قائد لإحدى الجيوش. يقول فينغر في إحدى مقابلاته مع الصحف الإنكليزية: «أعتقد أنكم في إنكلترا، تأكلون الكثير من السكر واللحوم وليس القدر الكافي من الخضار».
يرى الفرنسي أن مدرب كرة القدم في المستقبل سيكون محاطاً بالعلماء


في التسعينيات من القرن الماضي، بدأت جماهير فريق «الغانرز» بالهتاف: «1-0 لأرسنال... أرسنال ممل ممل». وبعدها، تعاقدت إدارة النادي اللندي مع العبقري الفرنسي آرسن فنغر، الذي غيّر مفهوم هذا الفريق، بل إنّه غيّر نظام الدوري وعلى ماذا يعتمد. كيف ذلك؟ «عندما وصل لأول مرّة إلى إنكلترا، لم نكن نعلم عنه الكثير، وكان الأولاد يسألون، من هذا الفرنسي ذو النظارات». كلمات أيان رايت النجم الإنكليزي السابق، توضح كم أن ظاهرة المدرب الأجنبي في الدوري الإنكليزي كان جديدة ومفاجئة. اليوم، الآية باتت معكوسة تماماً (4 مدربين من أصل 20 مدرب في الدوري الإنكليزي يحملون الجنسية الإنكليزية). ما كان يعتبر خطأً كبيراً، منذ 1996 (السنة التي قدم فيها فنغر) إلى اليوم، هو القاعدة الآن، ويعتبر نجاح المدرب الفرنسي الكبير السبب الرئيسي وراء ظاهرة المدرب الأجنبي في إنكلترا. أصبح فنغر أول مدرب من خارج إنكلترا يحقق لقب الدوري الإنكليزي، ومن بعده، بدأت تتوالى النجاحات لغيره من المدربين الأجانب: سير ألكس فيرغيسون، مورينيو، أنشيلوتي، مانشيني، رانييري، بيب غوارديولا وكونتي وغيرهم.
إلى جانب أفكاره المتعلّقة بالنظام الغذائي، يعتبر فنغر أنه هو وغيره من المدربين، مع مرور الوقت، لن يكون الاعتماد الأكبر عليهم. يقول المدرب الأسطوري لأرسنال: «أنا مقتنع أنه في العشر سنوات المقبلة، لن يكون المدرّبون بالضرورة متخصصين في كرة القدم، المدرّب مستقبلاً سيكون لديه الكثير من العلماء حوله. التدريب سيكون مركّزاً على إدارة اللاعبين أكثر من التخصص في كرة القدم نفسها، لأن القرارات الرياضية سيصبح مصدرها التكنولوجيا». عندما يقرأ البعض هذه الكلمات من فنغر، يشعر وكأن آرسن يعيش في عالم آخر، وفي سنوات متقدمة عن غيره من المدربين. أفكار غريبة وجميلة من ابن مدينة ستراسبورغ الحدودية، ناهيك عن فكرته التاريخية التي لازمته طوال حياته التدريبية: الاعتماد على المواهب والشباب. لكل حدث نهاية، وها هو فنغر أنهى مسيرته مع أرسنال، مع الفريق الذي يحبّه كثيراً، ويبحث الآن عن محطّة جديدة، وبحسب أغلب الصحف الفرنسية والإيطالية، فإن فينغر سيذهب إلى مدينة ميلانو، كمحطّة ثالثة في حياته، بعد كل من موناكو وأرسنال. وإن كان ميلان أكبر من الفريقين السابقين، فإن سقف التوقعات يبقى مرتفعاً حيال فنغر. العجوز، بعد كل شيء، ما زال شاباً.