نشرت الصحف العالمية عام 2007 نبأ انتقال النجم الإنكليزي ديفيد بيكهام إلى نادي لوس أنجلوس غالكسي الأميركي. قيل حينها إنّ قيمة الصفقة تساوي 250 مليون دولار أميركي، تُدفع للنجم الإنكليزي على مدار 5 أعوام. اكتشف العالم حينها أنّ الولايات المتحدة الأميركيّة تمتلك دوريّاً لكرة القدم. دوري يستقطب النجوم، ولو كانوا في نهاية مشوارهم الكروي. هنا للتسويق دور أكبر من كرة القدم. لواقعة 2002 وبعدها انتقال «النجم الوسيم» قيمة مهمة في صنع كرة القدم في الولايات المتحدة بصورتها الجديدة. فمع كأس العالم، ارتفعت نسبة متابعة اللعبة في بلاد «العم سام». بلغ عدد حضور نهائي كأس الولايات المتحدة العام الماضي 61 ألف مشجع في ملعب «جيليت». تغيرت بعدها قوانين اللعبة في البلاد لتوافق قواعد الفيفا. فأُلغي قانون البدلاء الأربعة، إذ كان يتيح القانون الأميركي للعبة وجود تغيير رابع لحارس المرمى بعد التغييرات الثلاثة المعروفة. وقبل كأس العالم 2006، أصبح للولايات المتحدة «سفراء» محترفون في الملاعب الأوروبيّة، على رأسهم الحارس المخضرم تيم هاورد، الذي لعب من 2003 حتى 2007 في مانشستر يونايتد الإنكليزي. لوندون دونوفان كذلك. بدأ في أميركا ثم انتقل إلى «البوندسليغا» مع بايرليفركوزن من 2000 إلى 2005 وبايرن ميونخ في 2009 على سبيل الإعارة. محترفٌ أميركي آخر هو داماركوس بيزلي، الذي أُعير إلى أيندهوفن الهولندي ثم إلى مانشستر سيتي الإنكليزي. إلا أنهم عادوا جميعاً إلى أميركا في النهاية. بعبارة أخرى، عرف العالم أنّ هناك ما يسمى «لاعب كرة قدم أميركي».

قانون ديفيد بيكهام
طرأ عام 2007 تعديلٌ على قانون التعاقدات في الولايات المتحدة. أصبح مسموحاً للأندية إنفاق مبالغ أكبر من أجل التعاقدات مع اللاعبين، وهو ما عُرف إعلامياً بقانون «ديفيد بيكهام». في 2006 كان الحد الأقصى للراتب السنوي للاعب كرة القدم في أميركا 1.9 مليون دولار. ارتفع في 2007 إلى 2.1 مليون ثم إلى 2.3 في 2008. بعد صدور القانون، أصبح من حق كل نادٍ أن يتعاقد مع عدد محدود من اللاعبين براتب يتجاوز الحد الأقصى. وكان بيكهام هو أول هؤلاء، عندما وقّع مع لوس أنجلوس غالكسي براتب سنوي قيمته 6.5 مليون دولار.
فتح انتقال بيكهام الباب من أجل انتقال المزيد من اللاعبين الأوروبيين الكبار إلى دوري كرة القدم في الولايات المتحدة الأميركية «MLS». منذ ذلك الحين أصبحت أسماء بعض الأندية الأميركية معروفةً أكثر لدى مشجعي كرة القدم. بات المشجع يعرف أنّ الفرنسي تيري هنري لعب في نادي نيويورك ريد بولز، والإسباني ديفيد فيا والإنكليزي فرانك لامبارد والإيطالي أندريا بيرلو لعبوا في نادي نيويورك سيتي، والبرازيلي كاكا لعب لصالح أورلاندو سيتي. إلى جانب هؤلاء لاعبون كثر فضّلوا الدوري الأميركي. فشهدنا انتقال الإيفواري ديديه دروغبا إلى مونتريال إمباكت، والإنكليزيين ستيفن جيرارد وأشلي كول إلى لوس أنجلوس غالكسي، كما تعاقد الألماني باستيان شفاينشتايغر في شيكاغو فاير، والسويدي زلاتان أبراهيموفيتش في غالكسي أيضاً، إضافةً إلى الفتى الذهبي واين روني الذي وقّع مع دي سي يونايتد.
يُعَدّ يوهان كرويف منقذ شعبية كرة القدم في الولايات المتحدة


مع انتقال هذه الأسماء، قد يظن البعض أنّ تلك البلاد تعرف حقبةً ذهبية للانتقالات. في الواقع هي أقدم من ذلك بكثير. يعود العصر الذهبي الأميركي إلى ما يُعرف بدوري أميركا الشمالية أو «NASL». بطولة استمرت سنوياً بين أعوام 1968 -1984. وإن امتلك «MLS» في السنوات العشر الأخيرة خيرة لاعبي هذا الجيل، فإن «NASL» قد حظي بأعظم لاعبي كرة القدم عبر تاريخها. بعد إحراز إنكلترا كأس العالم 1966. لوحظ أنّ نسب المشاهدة التلفزيونية للنهائي في أميركا الشمالية بلغت مليون مشاهد. وهنا ظهرت فكرة إقامة دوري أميركا الشمالية لكرة القدم. شارك في هذا الدوري 17 فريقاً أميركياً، وأُذيعت مبارياته على شبكة «CBS» الرياضية، لكن نسب المشاهدة لم تتجاوز أكثر من 4.7 مليون مشاهدة للموسم.
في السنوات التي تلت، تقلَّص عدد الأندية المشاركة وتأرجحت نسب المشاهدة التلفزيونية، إلى أن جاء موسم 1974 وجاءت فكرة التعاقد مع نجوم عالميين من الطراز الرفيع. وكان من بين هؤلاء البرتغالي أوزيبيو. في 1975 اختلف الأمر. تعاقد نادي نيويورك كوزموس مع الجوهرة البرازيلية بيليه. منذ اللحظة الأولى للتعاقد، سارعت الصحافة لتغطية وجود بيليه في الولايات المتحدة. لعب بيليه في الدوري الأميركي لمدة 3 مواسم، أحرز فيها مجتمعة 64 هدفاً في 107 مباريات. ورغم أنّ التعاقد مع لاعبين أجانب كان هو سمة الدوري منذ بدايته، فالموسم الأول لم يضم إلا 30 لاعباً أميركياً فقط في 17 نادياً.

كرويف: منقذ شعبية كرة القدم في الولايات المتحدة
قد تتجاوز مكانة الهولندي الطائر يوهان كرويف وصفه بأحد أهم لاعبي كرة القدم. في 1978 قرر كرويف الاعتزال بعد مواسم حافلة بالألقاب مع الجيل الذهبي من أياكس أمستردام وبرشلونة، وبعد الحصول على الكرة الذهبية 3 مرات. لكن بعد الفشل في مجموعة من الاستثمارات الخاطئة في مشاريع لمزارع الخنازير، قرر الهولندي العودة إلى كرة القدم بعد خسارة الملايين. تعاقد مع نادي لوس أنجلوس أزتيكا. ووصف كرويف هذا القرار بأنه أحد أفضل الأمور في حياته، كما قال إنه من الخسارة أن يتقاعد لاعب في مثل موهبته وهو فقط في سن الـ 31. البداية من الصفر في الولايات المتحدة، على بُعد مئات الأميال من ماضيه، علّمته التحكم في طموحه، والتعامل مع المسؤوليات والتفكير في نفسه كمدرب. أصبح كرويف منقذ شعبية كرة القدم في الولايات المتحدة، وارتفعت نسبة الحضور في المدرجات ذاك الموسم إلى ما يفوق الـ14 ألف متفرج للمباراة الواحدة ولأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة. نجومٌ كثر صنعوا التشكيلة المثالية للدوري الأميركي في تاريخه، منهم فرانس بيكنباور وكارلوس ألبرتو وبوبي مور. وفي الفترة بين 1965 إلى 1976 مُنحت جائزة أفضل لاعب في أوروبا 8 مرات من أصل 12 للاعبين بدوري أميركا الشمالية. إلى جانب ذلك، تجاوز الدوري الأميركي في عدد المتفرجين بالملعب كلاً من الدوري الفرنسي، الأرجنتيني والهولندي. كما قاربت أرقامه الدوري الإيطالي. في الولايات المتحدة تأتي كرة القدم في المرتبة الخامسة من حيث الشعبية، بعد البيسبول وكرة السلة والهوكي وكرة القدم الأميركية. ويبلغ مجموع الحاضرين إلى ملاعب كرة القدم فقط 10% من الحاضرين لملاعب البيسبول، و40% من كرة القدم الأميركية.
يختلف أسلوب لعب كرة القدم في الولايات المتحدة كثيراً عن سائر الدوريات الأخرى. فخلال حوار أجراه النجم الألماني باستيان شفاينشتايغر مع شبكة «ESPN»، قال الدولي الألماني إنه محبط. أشار إلى غرابة ضياع العديد من الكرات والتمريرات من زملائه في الفريق، ونقص رؤيتهم للملعب. كرر عشرات المرات أنّ الأمر في الولايات المتحدة «مختلف» عن بايرن أو البريمييرليغ أو «المانشافت».

أندية الأميركيتين
في إحصاء لشركة «فوربس» قامت من خلاله بتقييم أندية كرة القدم في الأميركيتين، حصد نادي كورينثيانز البرازيلي المرتبة الأولى بقيمة 462.2 مليون دولار. المركز الثاني كان من نصيب نادي بالميراس البرازيلي بقيمة 424.1 مليون دولار، في حين حصل إف سي لوس أنجلوس على المركز الثالث بقيمة 406 ملايين دولار. والغريب أنّ الناديين الأميركيين نيو انغلاند ريفوليوشن ونيويورك ريد بولز احتلّا المركزين الرابع والخامس، متخطّيين أبرز أندية أميركا الجنوبية مثل ريفر بليت وبوكا جونيورز الأرجنتينيَّين. أمّا لوس أنجلس غالكسي فقد قبع في المركز الثاني عشر بقيمة 200.1 مليون دولار.
هكذا، تشكل الولايات المتحدة المكان المثالي لاعتزال اللاعبين الكبار في أوروبا. فهناك وفرة الأموال وقلة المتطلبات الفنية. لكن، هل نجحت كل هذه الأموال بعد هذه السنوات في تغيير رؤية «الأميركيين» لكرة القدم؟ هل نجحت في تحويلهم إلى مشجعين ولاعبين شغوفين كما في سائر دول العالم، أو أقلها كلاعبي ومشجعي كرة القدم في أميركا الجنوبية؟ أم أنّ الكرة باتت مهرجاناً ترفيهياً يأتي إليه المشاهير من أوروبا كي يشاهدهم الجمهور الأميركي؟ أسئلةٌ كثيرة تُطرح حول «دولة كرة القدم» في أميركا، التي أصبحت قائمةً على الأموال والنجوم والتسويق.