قد يعتبر كثيرون أن وصول منتخبات معيّنة إلى الأدوار المتقدّمة في كأس العالم 2018 هو بمثابة المفاجأة. لكن يمكن الجزم أن لا شيء يبدو مفاجئاً لمن تابع تطوّر كرة القدم على صعيد المنتخبات تحديداً بعد مونديال 2002. منذ تلك الفترة عملت الاتحادات الوطنية في عدة دول (خصوصاً الأوروبية) على تسخير كل قدراتها لبناء أفضل منتخبٍ ممكن للمستقبل، فخرج البعض حتى من العباءة التقليدية التي فرضت دائماً مدرباً محلياً، تماماً كما فعل الاتحاد البلجيكي بتعيينه الإسباني روبرتو مارتينيز ومساعده المهاجم الفرنسي السابق تييري هنري على رأس الجهاز الفني.

نقلة حملت معها الكرة البلجيكية إلى مكانٍ آخر، إذ أدخلت ثقافة جديدة إلى تشكيلة متعددة الثقافات بمكانٍ ما مع أبناء المهاجرين الذين يسيرون اليوم على طريقة فرنسا 1998 وألمانيا 2014، ليكونوا من المرشحين الأقوياء للفوز باللقب العالمي، وخصوصاً بعد إطاحتهم بالمنتخب البرازيلي.
الأمر عينه، ينطبق على إنكلترا وكرواتيا اللتين ذهبتا إلى الاعتماد على مدربَّين شابين، مستفيدة من خبراتهما الحديثة العهد، فالدورات التدريبية التي خضع لها الجيل الجديد من المدربين في القارة الأوروبية تحمل أساليب حديثة لا يعرفها الجيل القديم، فأصبح جليّاً أن المستقبل هو لمدربين شبّان، وهذا أمر بدأت حتى الأندية الكبرى تذهب إليه، فكان على سبيل المثال لا الحصر تعيين بايرن ميونيخ بطل ألمانيا للاعبه السابق الكرواتي نيكو كوفاتش مديراً فنياً خلفاً للعجوز يوب هاينكس.
ومع وضع ديدييه ديشان كل خبرته العظيمة كلاعب في قلب المنتخب الفرنسي، يمكن اعتبار أن أمرين أساسيين حسما تأهل المنتخبات الأربعة المذكورة إلى الدور نصف النهائي، وهما النضج الكروي وحراسة المرمى.

اللاعبون هم الأساس
لكن الواقع أن ليس كل شيء يرتبط بالمدربين، فهناك أولئك الرجال الذين يترجمون أفكار «الفلاسفة» الموجودون على خط الملعب، وهو أمر ثبُت أقله في آخر مونديالين عندما استفادت إسبانيا والمانيا على التوالي من وجود مجموعة من اللاعبين الذين نضجوا كروياً في سنٍّ صغيرة فكان كأس العالم من نصيب البلدين المستفيدين بشكلٍ أو بآخر من نقلةٍ نوعية مبنية على أسسٍ ثابتة وواضحة ومناسبة للواقع الموجود، خطّها المدربان فيسنتي دل بوسكي لدى الإسبان ويواكيم لوف لدى الألمان.
القاعدة الأساسية في المونديالات: من دون حارسٍ قوي لن تذهب إلى أيّ مكان


اليوم يتكرر المشهد، فرنسا تذهب إلى دور الأربعة مستفيدة من تشكيلة هي الأصغر سنّاً مع إنكلترا (معدّل الأعمار في المنتخبين 26 عاماً)، وفي نفس الوقت هي التشكيلة الأكثر خبرة، إذ قلّة هم اللاعبون الفرنسيون في صفوف «الديوك» الذين لا يلعبون لنادٍ كبير في أوروبا أو ينشطون على أعلى مستوى في المنافسة على الألقاب المحلية والقارية. إذاً هي التوليفة المناسبة: الشباب والخبرة في آنٍ معاً. أمورٌ سهّلت بلا شك عمل ديشان، فبدأت رباطة الجأش على لاعبيه في المواجهة أمام الأوروغواي فتحمّلوا منذ بداية المباراة قساوة الالتحامات البدنية مع لاعبي المنتخب اللاتيني ثم سيّروا اللقاء كيفما شاءوا حتى انهار الأوروغويانيون نفسياً فظهرت دموعهم حتى قبل صافرة النهاية. ويضاف إلى هذه النقاط وقوف حارس مرمى قليل الأخطاء خلف خطّ دفاعٍ قوي، هو هوغو لوريس، لتثبت القاعدة الأساسية في المونديالات: من دون حارسٍ قوي لن تذهب إلى أي مكان.

بلجيكا وإنكلترا بنفس الصورة
وهنا يبدو التشابه كبيراً مع بلجيكا وإنكلترا، إذ لا شك في أن الحارس ثيبو كورتوا كان البطل الحقيقي في مواجهة البرازيل، ليعيد مشهد تألق الحراس الذين حملوا بلدانهم إلى المجد المونديالي، آخرهم إيكر كاسياس في 2010، ومانويل نوير في 2014. والأمر عينه فعله جوردان بيكفورد بين خشبات منتخب «الأسود الثلاثة» في مواجهة السويد، لتتنفس إنكلترا أخيراً الصعداء حيث لم تتنعّم بحارسٍ مميز ربما منذ أيام ديفيد سيمان، فعاشت كوارث حقيقية مع أمثال ديفيد جيمس وجو هارت.
والنضج الكبير لدى «الشياطين الحمر» مكّنهم من تخطّي رهبة اللعب أمام أكثر المنتخبات فوزاً باللقب، ومنحهم ثقة كبيرة بإمكانية إقصاء «السيليساو» رغم الضغط الكبير الذي خلقه الأخير طوال فترات المباراة. هم لم ينهاروا تحت الضغط، فتمكنوا بنضجهم من امتصاص «غضب» البرازيليين في الشوط الأول وهزّوا شباكهم مرتين، ثم عرفوا كيفية التعامل من دون توتر كبير مع محاولات منتخب المدرب تيتي للعودة إلى المباراة وساروا بتقدّمهم الى برّ الأمان.


وإنكلترا أيضاً كانت تعلم أنها ستتحمل قساوة «الفايكينغز» المقاتلين وغير المهاريين، وهي بتشكيلتها الشابة امتلكت نفساً طويلاً، والأهم إيماناً بالذات بإمكانية تحقيق الإنجاز الذي طال انتظاره.
لاعبو انكلترا ينزعون عنهم اليوم صفة «عارضي الأزياء» و«هواة الأضواء»، إذ لطالما اتُهم اللاعبون الإنكليز بأنهم دون المستوى في البطولات الكبرى، حتى أن البعض حكى عن تقاضيهم مبالغ لا يستحقونها في أنديتهم ما جعلهم في حالة استعلاء تجاه قميص المنتخب الوطني. لكن شغف بيكفورد وكلام هاري كاين بعد كل مباراة يعكسان شخصية مختلفة ممزوجة بكسر الصورة التقليدية عن لاعبي منتخب إنكلترا الذين تمجّدهم الصحف البريطانية اليوم بعدما انهالت على أسلافهم بكل أنواع الإهانات سابقاً.

كرواتيا الدرس الحقيقي
وبين كل هذه المنتخبات يعطي المنتخب الكرواتي درساً حقيقياً حول كيفية الاستفادة من المواهب الموزّعة هنا وهناك في القارة الأوروبية، والصبر عليها لاكتساب الخبرة اللازمة لتحقيق المطلوب. فلا شك في أن الكرواتيين عانوا تباعاً منذ ذاك الإنجاز التاريخي بحلولهم في المركز الثالث في مونديال 1998، لكن بعدها بدأت عملية البناء ووقف المنتخب مارداً في وجه أيٍّ كان بسبب النضج الذي أصاب لاعبيه. وهنا يمكن التصويب على نقطةٍ واحدة دون سواها في المشوار الكرواتي حتى الآن: الفوز بركلات الترجيح في مباراتين متتاليتين.
هو فعلاً أمر صعب ويحتاج إلى أعصابٍ قوية ولاعبين يتمتعون بذهنية جبّارة. هم فعلوها حتى في ظل ضغطٍ كبير من جمهور أصحاب الأرض، فتخطوا المنتخب الروسي العنيد، والتقوا مع الترشيحات التي تضعهم اليوم كأي منتخبٍ آخر للفوز بكأس العالم، إذ يكفي أن يكون لديك حارس مثل دانيال سوباسيتش، وخط وسطٍ قد يكون الأفضل في العالم بقيادة الثنائي لوكا مودريتش وايفان راكيتيتش، لترعب الجميع من دون استثناء.


إنكلترا إلى نصف نهائي بدماء باردة
لم يكن يجرؤ احد على توقّع نتيجة المباراة بين المنتخبين السويدي والإنكليزي، فأحفاد «الفايكينغ» كسبوا احترام الجميع في البطولة، كيف لا وقد وصلوا إلى الدور ربع نهائي. رفاق نجم الوسط إميل فورسبرغ بدأوا المباراة بالطريقة التي اعتدنا على مشاهدتها من قبل هذا المنتخب: طريقة دفاعية بحت تعتمد على الهجمات المرتدّة وعلى استغلال مساحات الخصم.
من جهته دخل المدرب غاريث ساوثغايت المباراة، بتشكيلته الاعتيادية في كأس العالم، فكما أثارت الجدل قضيّة روبرتو فرمينو وغابريال جيسوس وعدم إقحام تيتي لنجم ليفربول، أصبحت القضية إنكليزية أيضاً، إذ إن عدم إعطاء ماركوس راشفورد الفرصة على حساب رحيم ستيرلينغ الذي لم يقدم شيئاً يذكر في المباريات الأربع الأولى يضع علامات استفهام كبيرة على «عناد» المدرب.
المباراة كانت ستوازي مباراة فرنسا والدنمارك في دور المجموعات لناحية «الملل» والكرات الغير مدروسة، إلّا أن هدف هاري ماغواير في الدقيقة 30 من كرة رأسية حرّك المياه السويدية الرّاكدة وبدأنا نشاهد مباراة تليق نوعاً ما بربع نهائي كأس العالم. ماغواير، يعتبر من بين الاكتشافات التي تحسب للمدرب ساوثغايت خلال المونديال. طويل القامة، قوي البنية وأهم من كل ذلك، يرتقي عالياً ولديه القدرة على إصابة الكرة من أي مكان. لاعب إنكليزي آخر، كانت مباراة ربع النهائي أمام السويد، بمثابة أفضل مبارياته في المونديال: ديلي آلي. هو سجّل هدف الاطمئنان بالنسبة إلى الإنكليز في الدقيقة 58 من رأسية أيضاً حسم بها اللقاء من دون وجود أيّة مقاومة سويدية تذكر. تأهّل المنتخب الإنكليزي إلى نصف النهائي لأول مرّة منذ عام 1990، إنجاز تاريخي بالنسبة إلى قائد المنتخب هاري كاين صاحب الـ 6 أهداف حتّى الآن ولرفاقه ولهذا المنتخب الطموح. المحطّة المقبلة: كرواتيا.


...ويستمر الحلم الكرواتي
كرّر المنتخب الكرواتي إنجاز مشاركته الأولى في كأس العالم قبل 20 عاماً ببلوغه الدور نصف النهائي بعد الفوز على صاحب الأرض والجمهور ومستضيف البطولة المنتخب الروسي بنتيجة 4-3 بركلات الترجيح، بعد نهاية الوقت الأصلي 1-1 والإضافي 2-2 . وكان للـ«جيل الذهبي» للمنتخب الكرواتي بقيادة أفضل لاعب في المونديال برأي الكثيرين لوكا مودريتش الذي تم اختياره كأفضل لاعب في المباراة، حاضراً لتكرار إنجاز جيل أواخر التسعينيات، في الوصول إلى دور الأربعة الذي عرفه في مونديال فرنسا عام 1998. في المقابل، فشلت روسيا ببلوغ المربع الذهبي للمرة الأولى في تاريخها منذ فترة الاتحاد السوفياتي، حيث كان مسار المنتخب الروسي في البطولة «غير متوقع»، خصوصاً أن هذا المنتخب يعتبر الأدنى تصنيفاً بين المنتخبات الـ 32 المشاركة. ولم يخطئ المدرب ستانيسلاس تشيريتشيسوف حين قال: «نحن كالمجنّدين المسرّحين قبل الوقت، تعرضنا للانتقادات قبل البطولة، صدقوني أو لا، كنا نؤمن بأنفسنا، والبلد أحبنا». هدف دينيس تشيرشيف الافتتاحي كان تحفة فنية (أفضل هداف روسي في المونديال بـ 4 أهداف)، لكن أندريه كراماريتش عادل النتيجة. استمرّت السيطرة الكرواتية لكن من دون أي خطورة باستثناء كرة ايفان بيريسيتش التي ارتدت من القائم الأيمن قبل نهاية المباراة بدقائق، ليسجّل في الأوقات الإضافية داموغاي فيدا هدف التقدّم لكرواتيا لأول مرة في المباراة. إلا أن البرازيلي الأصل ماريو فيرنانديش رفض أن ينتهي اللقاء بفوز الكروات بتسجيله هدف التعادل قبل خمس دقائق على نهاية الشوط الإضافي الثاني. ليتكرر بعدها مشهد تسديد ايفان راكيتيتش لكرة الحسم أمام الدنمارك، ولكن هذه المرة أمام الروس لتتأهل كرواتيا إلى الدور نصف نهائي وتضرب موعداً نارياً مع الإنكليز.