«الكثرة تغلب الشجاعة». حكمة في الحياة وفي كرة القدم. لم يعد هناك لاعب في العالم قادراً على صنع الفارق وحده وحمل ناديه أو منتخبه لحصد الألقاب. في مونديالي 1986 و1990 حمل دييغو أرماندو مارادونا أحلام الأرجنتينيين، كان الملهم. أهداهم كأس العالم في الأولى، وحلّ وصيفاً في الثانية. وحده كان يصنع الفارق، بيده أو قدمه لا مشكلة، المهم أنّه كان النجم الأوحد في الأرجنتين. قبله كان بيليه، «جوهرة» البرازيل، والذي أهدى الشعب البرازيلي الكأس الأغلى في ثلاث مناسبات. الأكيد أنّه كان هناك لاعبون إلى جانبهما، لكن مارادونا وبيليه كانا قادرين على صنع الفارق من أنصاف الفرص، والأهم كانت «الاستراتيجية الدفاعية» أمامهما أضعف مما عليه الآن بكثير. قبل سنوات كان رونالدو البرازيلي وزين الدين الزيدان في فرنسا، قادرين ايضاً على صناعة الفارق وحدهما، لكن اليوم الأمر بات مختلفاً. فشل ميسي في مونديال روسيا وكذلك رونالدو، خرجت الأرجنتين والبرتغال من الدور الثاني، ولم يحرك صاحبا العشر كرات ذهبيّة ساكناً. انكسرا في روسيا. منذ بطولة أوروبا 2008 التي نُظّمت في النمسا وسويسرا، وحققت لقبها أسبانيا وألمانيا وصيفة، بدا أن شيئاً تغيّر. المنتخبات باتت تمتلك «منظومة» لعب، الجميع يدافع والجميع يهاجم. ليس هناك نجم واحد. عادت إسبانيا وحققت كأس العالم في جنوب أفريقيا ولم تحرز أكثر من 8 أهداف طيلة المونديال، وبعدها بطولة أوروبا مرّة أخرى في 2012. كتيبة كاملة من السحرة، إنّه غوارديولا وفلسفة التيكي تاكا. لم يعد هناك نجم واحد، الكرة تخرج من الحارس وتمر بجميع لاعبي الفريق وصولاً إلى شباك الخصم. تعلّم الجميع من الإسبان، كرواتيا هزمت ميسي ورفاقه بالمحاربين القدامى. لوكا مودريتش يقدّم أداءً مذهلاً في وسط الملعب، إلى جانبه إيفان راكيتيتش، مدعومان بأنتي ريبيتش وماتيو كوفاتشيتش ومارسيلو بروزوفيتش. مودريتش غير قادر على فعل أي شيء وحده، ولكن مع رفاقه قادر بالتأكيد. قطع وسط كرواتيا الهواء والمياه عن الأرجنتينيين، حققوا العلامة الكاملة في الدور الأوّل بفعل التنظيم المحكم للمنتخب.فرنسا بدورها قتلت الأرجنتين بالتركيبة وليس بكيليان مبابيه فقط، الجميع يدافع والجميع يهاجم. بول بوغبا «ينهش» الملعب، ونغولو كانيه لا يكف عن الركض، أوليفيه جيرو يدافع، والمدافع ينيامين بافارد يسجل هدفاً قاتلاً. منظومة متكاملة، قطعت الماء والهواء عن ليونيل ميسي، استحوذ رفاق ليونيل على الكرة بنسبة وصلت إلى 59 في المئة، ولكنهم فشلوا بإيصالها إليه، وقف «لا بولغا» فخرجت الأرجنتين.
منذ بطولة أوروبا 2008 بدا واضحاً أن كرة القدم تغيّرت وأصبحت جماعية


من جهة البرتغال غاب كريستيانو رونالدو، لم يصنع ولم يسجّل في مباراة الأورغواي الحاسمة في دور الـ16، على رغم الاستحواذ على الكرة بنسبة 67 في المئة. دفاع الأورغواي صنع الفارق، حيث أشرك المدرب المخضرم أوسكار تاباريز خوسيه ماريا خيمينيز ليلعب في عمق الدفاع إلى جانب دييغو غودين. فعاليّة الأوروغواي على المستوى الدفاعي والانضباط التكتيكي في وسط الملعب، ساعد إيديسون كافاني على الانطلاق بالمرتدات وسجّل هدفين. وكان لافتا عودة لويس سواريز إلى منتصف ملعبه لمساعدة الدفاع أو الخروج بالكرة. منظومة أيضاً تلعب ضد منتخب يحاول الاعتماد على كريستيانو رونالدو. تغيّرت كرة القدم كثيراً، المنظومة المتكاملة أكثر فعاليّة من اللاعب النجم. مبابيه وغريزمان ومعهم بوغبا وكانتيه هزموا ميسي، وكذلك سواريز وكافاني وغودين وخوسيه خيمينيز حدّوا من قوّة رونالدو وفعاليّته. وحتى في المنتخب البرازيلي، فعاليّة فيليبي كوتينيو ودوغلاس كوستا، إضافة إلى روبيرتو فيرمينيو ومارسيلو هي التي تصنع الفارق، وليست حركات نيمار الذي يبقى عالقاً مع كرته على الجهة اليسرى، عاجزاً عن صنع الفارق وحده.

الانضباط التكتيكي ساعد إيديسون كافاني (بيير فيليب ماركو ــ أ ف ب)

بدوره، فشل رونالدو في التسجيل بالأدوار الإقصائية من كأس العالم في 6 مباريات (514 دقيقة و25 تسديدة)، كذلك ليونيل ميسي فشل في التسجيل خلال 8 مباريات من الأدوار الإقصائية من كأس العالم (756 دقيقة و23 تسديدة). وبنظرة إلى بقية المنتخبات، يبدو واضحاً أن السويد أحرجت المنتخب الألماني بالمنظومة، ووصلت إلى الدور الثاني بأسلوب منظّم دفاعي، وقوّة في وسط الملعب. كذلك فعلت سويسرا التي نجح مدربها فلاديمير بيتكوفيتش بإخراج قدرات كل لاعب على حدى، ولم يعتمد فقط على جيردان شاكيري أو تشاكا. الدنمارك بدورها اعتمدت على المنظومة. خفت نجم اللاعب الواحد، وصعد نجم المجموعة. كرة القدم الأوروبيّة، بعد ثورة ألمانيا «الكرويّة» عقب خسارتها في نهائي عام 2002 أمام البرازيل، وبعدها إسبانيا والآن كرواتيا وفرنسا بدّلت المفاهيم أقلّه في الفترة الحاليّة، المهم النتيجة والثلاث نقاط، لا المتعة والمراوغات واللقطات الفنّية الجميلة. كرة القدم الجماعية تصنع المتعة في بعض اللقطات، ولكن تبقى المتعة الحقيقيّة في اللمحات الفنيّة التي يقدمها الأفراد.
يعتقد البعض أن الأسلوب الحديث الذي يعتمد على المنظومة يقتل ما تبقى من متعة في كرة القدم، لمصلحة الكتيبة وإقفال الملعب. هناك وجهة نظر تقول إن المدرب البرتغالي جوزيه مورينيو، هو من المدرّبين الذين يساهمون بـ«قتل» المتعة في كرة القدم، ولكن هي مرحلة بدأتها المدارس الكرويّة في أوروبا، وتأثّر بها اللاعبين المحترفين في القارّة العجوز، كرة قدم فعالة على رغم أنها أقل جمالية، بانتظار فلسفة أخرى ربما في السنوات الآتية.