النيران المشتعلة في منقل الفحم أمام أحد المحال في منطقة حارة حريك تشي بانطلاق التجهيزات للسهرة اليومية لشبّان المنطقة. بات مقهى «غليون الحارة» محطةً يوميًّة لهم. على كرسيٍّ خشبيٍّ في زاوية المحل، يجلس شاب عشرينيّ على حدة. يبدو غريباً بين المجتمعين في الخارج. ضجيجهم يطغى على سكوته. ببساطة، الشاب هذا ليس من متابعي كرة القدم على الإطلاق. هو حالةٌ شاذةٌ بين أبناء مجتمعه.
ميسي وحده
لم يعد رواد المقهى زبائن عاديين يدخلونه على عجل، بل نشأت بينهم صداقات متينة رافقتها رحلات عديدة داخل لبنان وخارجه. يعقدون يوميّاً جلساتهم الخاصة على رصيف الشارع. يعلو صوت أحاديثهم ونقاشاتهم الكروية على صوت «سيتيرنات» المياه التي تجوب الضاحية. معظم الشبّان هنا مشجعون للمنتخب الأرجنتيني. قد لا يكون الأمر مستغرباً لصاحبه، فهو، على الرغم من تعدد زبائنه، يولي اهتماماً خاصاً بمحبي المنتخب «الألبسيلستي».
يجتمع مشجعو المنتخب الأرجنتيني حول شعار واحد: «شمس الأرجنتين ستذيب جليد روسيا» (أرشيف ــ مروان طحطح)

حتى إنّه يفكّر في رفع لافتة عريضة أمام المقهى تحمل اسم «رابطة مشجعي المنتخب الأرجنتيني في الضاحية»، لا بل في لبنان. جنونهم بات يتعدى حدود المناطق.
يرسم الشبان بجلساتهم اليومية لوحة حول ثقافتهم الرياضية الجيّدة، وينقلون صورة راقية عن تقبّلهم لمبدأ التنافس في كرة القدم. هذا في الشكل. أمّا في المضمون، فيبدو الأمر مختلفاً جدّاً. هنا يختلف الابن مع والده في التشجيع، فتنقسم العائلة داخل البيت الواحد إلى طرفين، تماماً كما تنقسم مدرجات ملاعب الفوتبول. ينقل عباس مرواني، صاحب المقهى، غضب والده عندما علم بأنّ أمّه باتت من مشجعي الأرجنتين في مونديال 2010، ممازحاً إيّاها حينها بالقول: «لو عارف قبل ما كنت تزوّجتك». ويضيف: «إخوتي وأنا نشجع الأرجنتين، فيما أبي متعصب جداً للمنتخب البرازيلي، والخلاف بيننا مستمر منذ مدّة حول رفع علمَي المنتخبين الأسبوع المقبل على شرفة المنزل». خلال الحرب الأهلية اللبنانية، كانت مباريات كأس العالم تفرض هدنة على جبهات الاشتباك بين المناطق. يجتمع المسلحون معاً لمشاهدة مباريات منتخبهم المفضل. يخفت صوت الرصاص في أرجاء مدينة بيروت لساعتين، ليستبدل بموسيقى الفوز. ذاكرة والد مرواني تخلّد لحظات لا تنسى.
علي السّباعي عيّنة من جمهور البرازيل ويعيش حالة تعصّب لافتة في مجتمعه وبين أصدقائه


«الرياضة توحّد ما فرّقته السياسة» يختصر مرواني موقفه. لكنّ التوحّد حول اللعبة لا يعني أبداً التوحّد في تشجيع المنتخبات. بالنسبة الى بعض المشجعين، الموضوع يتجاوز التنافس الكروي. «ما في صداقة بالفوتبول». الأمر محسوم. خلال المباراة، نحن حتماً أخصام، وكل فردٍ يتعصب للفريق أو المنتخب الذي يحب، حتى رفع صافرة النهاية.
يجتمع مشجعو المنتخب الأرجنتيني حول شعار واحد: «شمس الأرجنتين ستذيب جليد روسيا». ينتظرون انطلاق كأس العالم بقلق. ومن غير المبالغ فيه اذا قلنا انّهم باتوا يعدون الساعات لمباراة منتخبهم الأولى، وهم الذين يتعطّشون لرفع الكأس بعد انقطاع طويل منذ عام 1986. بشكلٍ لافت، يُفتقد العلم الألماني بين الأعلام التي سترفع في المقهى قبيل انطلاق المونديال. السؤال عن السبب ممنوع، فالجماهير الألمانية هم الخصم الأكبر لمشجعي الأرجنتين. قد يعود الأمر إلى انتزاع الألمان الكأس من يدي الأرجنتين في نهائي مونديال 2014 وقبل ذلك أيضاً. عداوة تاريخية.

حيٌّ باتّجاهين؟
بين زواريب منطقة الرمل العالي قصّة حيٍّ رياضيٍّ شهير. لا اسم واضحاً له. حاله كحال معظم الأحياء الشعبية. قد يكون هذا الشارع غنيّاً عن التعريف لقاطنيه. يكفي الداخل إلى المنطقة السؤال عن حيّ (البرازيل وألمانيا). ولكن من أين أتت التسمية؟ على جانبي الشارع تتربّع بنايات متداخلة في ما بينها. الشرفات تكاد تلامس بعضها بعضاً. شكل العمران هنا يقسّم الأبنية بشكلٍ أفقيٍ إلى جهتين متوازيتين. في صف الأبنية من الجهة اليمنى، مشجعون برازيليّون، وعلى الجهة اليسرى مشجعون ألمانيّون. يبدو الأمر غريباً للوهلة الأولى. لكنّ أهالي الحي، ومعظمهم من الأصحاب، اعتادوا فكرة انقسامهم رياضيّاً بهذا الشكل الحاد، وهم الذين يتنافسون يوميّاً على رفع أكبر علمٍ لكلّ منتخب فوق أسطح المباني. حسين حجيج، أحد سكان الحي، مشجعٌ برازيلي منذ الطفولة. أفراد عائلته الخمسة أيضاً يتابعون البرازيل. بالنسبة اليه، «لا مشكلة بمتابعة المباريات مع مشجع برازيلي من طائفة أخرى، ولكن حتماً ليس مع مشجع منتخب آخر من طائفتي». ينحاز التعصّب للمنتخب على حساب الطائفة.
التشجيع الرياضي إذاً لا يرتبط بأي تقسيم طائفي في المجتمع، بل يتعلّق بالمقام الأوّل بالولاء التامّ للمنتخب. يدعّم حجيج رأيه بالقول: «أبرز مثالٍ على ذلك مدرج نادي النجمة اللبناني الذي يغصّ بجماهير من مختلف الطوائف والتيارات السياسية ويبقى الانتماء بين جمهوره للنادي فقط».
حجيج معروف بين بيئته بنشاطه الرياضي المتعدّد. يتابع نادي الحكمة لكرة السلة منذ سنوات. وبالرغم من الانتقادات الكثيرة التي تواجهه، إلّا أنّه لا يرى أيّ مشكلة في تشجيع نادٍ «معروف بطابعه المسيحي وتابع لحزب القوات اللبنانية»، مشدّداً على حفاوة الاستقبال ضمن جمهور الحكمة على مدرجات ملعب غزير، بالرغم من «أنّهم يعرفون أنني من طائفة أخرى وانتماء سياسي بعيد جدّاً عنهم». فهل ينسحب الأمر على بطولة كأس العالم أيضاً؟

العزلة لأجل البرازيل!
للفوز أو الخسارة في المونديال طعم آخر يختلف عن باقي مباريات كرة القدم حول العالم. البطولة التي تجرى مرة كل أربع سنوات، تحفظ في ذاكرتها محطات لا يمكن محوها مع مرور الوقت. «لعنة» الأهداف السبعة لألمانيا أمام البرازيل في تصفيات الدوري نصف النهائي لبطولة العالم 2014 مثال على ذلك. هزيمة لا تزال تلاحق مشجعي «السامبا» إلى اليوم.
علي السّباعي عيّنة من جمهور البرازيل. يعيش حالة تعصّب لافتة في مجتمعه وبين أصدقائه. يفضّل السّباعي دوماً الانعزال بمفرده خلال متابعته المباريات، رافضاً وبحزمٍ شديد مشاركة سهراته الكروية مع أحد حتى ولو كان موالياً للمنتخب البرازيلي. يعيد السباعي الأمر إلى أنّه «لا يحتمل التشويش خلال اللعبة، وينزعج كثيراً من الخسارة». اللقاء إذاً غير وارد في حساباته، حتى مع الحليف قبل الخصم!



العائلة تترنّح بين منتخبين
يعتبر «حيّ اللّجا» من أكثر الأحياء اكتظاظاً في بيروت. يعرف بتنوّعه الطّائفي، والأمر نفسه ينسحب على التوجّه الرياضيّ أيضاً. تحفظ ذاكرة أهالي الحيّ نهائي مونديال 1994، حين تنافس المنتخبان البرازيلي والإيطالي على اللقب. آل خواجة، وهم من أكبر العائلات في «حيّ اللّجا»، يشتهرون بانقسامهم في التشجيع بين هذين المنتخبين. لكنّ فرحة فوز البرازيل حينها بالكأس لم تكتمل، بل أدّت إلى نشوب خلاف حاد بين أفراد العائلة الواحدة. ينقل علي حمود، أحد سكان الحيّ، كيف انقسمت العائلة أيضاً في سيارتين للقوى الأمنية، كلٌّ بحسب المنتخب الذي يشجّع. بدا المشهد حينها سورياليّاً.
حمود يعتبر أنّ هذه العائلة نموذجٌ مصغرٌ عن الشّعب اللبناني، «فنحن مقسّمون طائفياً ومذهبياً، ولا أظنّ بأنّنا سنتوحّد في الرياضة». يعطي مثالاً عن هذا الانقسام من دون انتباه. يشهّر في «كرهه» للمنتخب البرازيلي، معتبراً إيّاه «العدوّ الأوّل في المونديال». يقول حمود بثقة: «سأتابع مباريات الأرجنتين فقط»، ويستدرك: «بل ليونيل ميسي فقط وليس المنتخب بأكمله، فهو وحده جوهر اللعبة». يتعصّب للاعبٍ ضمن فريق!
هكذا يرى كلّ مشجعٍ أنّ منتخبه هو المنتخب الأفضل ويستحق الفوز بالكأس. قد يظهر بعضهم تعاطفه تجاه البعض الآخر، ربما، لتمرير الوقت. وفقاً لحسابات الشباب، بتنا بحاجةٍ الى عشرات الكؤوس في كل دورة، حتى يتسنى للجميع أن يتوّج بطلاً!