عند ذكرنا للأوروغواي، ترسم في مخيلتنا واحة اقتصادية خضراء في أميركا الجنوبية. رغم أنها تُعَدّ من أصغر الدول في القارة، إلا أنها تحظى بمكانة تاريخية واقتصادية بارزة. وهي من أكثر الدول نمواً في قارتها، ويرتفع فيها دخل الفرد من الناتج المحلي عن نظرائه في المنطقة، ما جعلها تحوز مواقع متقدمة على مستوى المعيشة ونوعية الحياة عالمياً تضاهي بها الدول الغربية. لو نظرنا إلى الأوروغواي التي تُعَدّ من أصغر الدول في أميركا اللاتينية، وقارنا بينها وبين الدول الغربية ذات التاريخ العريق، وجاءت المقارنة من طريق معدل دخل الفرد، ونسبة الأراضي الزراعية المستغلة، ومعدلات الفقر والبطالة، والقوة الاقتصادية، لوجدنا أن هناك مفاجآت تصبّ بمجملها في مصلحة الأوروغواي. الدولة التي صنفت تقارير رئيسها على أنه الرئيس «الأفقر» على وجه الأرض. تصنَّف الأوروغواي وفقاً لمنظمة الشفافية الدولية على أنها البلد الأقل فساداً في أميركا الجنوبية مع تشيلي، حيث إن الرئيس السابق خوزيه موخيكا ترك قصر الرئاسة للفقراء، ولأن نسبة الفساد تكاد تتلاشى في هذه الدولة الصغيرة، امتلكت أوروغواي بأقل القليل فريقاً كروياً تصنيفه بين المنتخبات العشرين هو الأفضل على مستوى العالم.
يجمع بينارول وناسيونال لثمانية ألقاب في كأس ليبرتادوريس

لكن لماذا لم يكن منتخب الأوروغواي لكرة القدم منافساً مهماً خلال نصف القرن الماضي؟
كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الأوروغواي من الأعلى في العالم، عندما كانت تهيمن على كرة القدم، من 1920 إلى 1950، فازت الأوروغواي في البطولتين الأولمبيتين قبل انطلاق كأس العالم عام 1930، في أولمبياد 1924 وأولمبياد 1928. كان لديهم فرصة للعب ضد الأرجنتين في مئات من المباريات الودية الدولية. ولأن لاعبيهم لم يكونوا قادرين على مغادرة البلاد والاحتراف في الخارج، بموجب القانون، كان وقتهم وجهدهم يصبّ في مصلحة الوطن والفوز كدولة.
بدأ دوري الدرجة الأولى في أوروغواي في هذا الموسم 2017 ــ 2018 بفقدان أحد فرقه


اللافت أن اقتصاد الأوروغواي كان يرتكز على الأبقار والأعمال المصرفية الإقليمية الخارجية، وأنه بدأ يتعثر، في ظل تحولات عالمية كبيرة. في وقتٍ لاحق، حُذفَت قواعد الأوروغواي التي تمنع اللاعبين من السفر إلى الخارج.
هكذا، توقف اللاعبون عن اللعب معاً، وبدأ الفريقان الأقوى في أوروغواي، بينارول، وناسيونال يفقدان هيمنتهما. أما آخر الإنجازات في الأوروغواي، فكان مباراة نصف النهائي لنهائيات مونديال جنوب أفريقيا 2010. في نهاية المطاف، فشل اقتصاد الأوروغواي في مواكبة أوروبا، حيث كان عدد سكان البلاد البالغ عددهم مليوني نسمة في عام 1930، و3 ملايين اليوم، أنتج عدداً محدوداً للغاية من اللاعبين. هؤلاء اللاعبون الذين أبلوا بلاءً حسناً، انتقلوا إلى الخارج، ولن يكونوا موجودين لتدريب جيل جديد. واصلت فرق الأوروغواي للشباب، تحت 17 و21 سنة، المنافسة على مستويات عالية. لأن الدوري المحلي هامشي، ببساطة لا يوجد مال لإبقاء اللاعبين. لذا فهم لا يلعبون أبداً ضد بعضهم أو معاً. كانوا يجتمعون عدة مرات في السنة للعب مباراة دولية ودية، أو مباراة تصفيات كأس العالم، في المقابل لدى كل من البرازيل والأرجنتين دوريان محليان كبيران قادران على دفع ما يكفي للاعبين حتى لا يكون لديهم «وظائف يومية».
البداية كانت في اللحظة التي بدأ فيها السوق العالمي في الانفتاح. رأينا مواهب الأوروغواي تتجه إلى إسبانيا وإيطاليا. وهنا بدأ التحول الرأسمالي. أصبح الفريق الوطني قادراً على استفادة من «التفاوت» بين البعدين الاقتصاديين المحلي والخارجي، بعد أن أمضى بعض العقود في حالة ركود. بمعنى آخر، بدأت تتشكل ملامح صورة «رأسمالية» للفريق الأوروغواياني، تخفي خلفها أزمة الدوري المحلي. على المستوى الفني، فهم مدرب المنتخب الوطني أوسكار تاباريز، بخبرته الواسعة وذكائه الكبير، أن كرة القدم في الأوروغواي، في عصر العولمة، ستفقد حتماً أفضل لاعبيها في عمر قصير. لكن يمكن أن يكون الفريق الوطني منافساً إذا استخدم العنصر الشاب، لتحديد اللاعبين الواعدين ومن ثم تطويرهم، ومنحهم دورة مكثفة في تاريخ وأهمية القميص الأزرق السماوي. على مدار فترة «حكمه» التي استمرت 12 عاماً، ثبت بوضوح أن تاباريز كان على حق. إنها طريقة تفكير تترك أملاً ضئيلاً للأندية المحلية المُدانة بالعمل على ميزانيات ضئيلة مع فرق مكونة من الشباب الواعد المتجه إلى أوروبا، ومع ذلك، هناك من يعتقد أن الأمور يمكن أن تكون أفضل.

الدوري المُدان
بدأ دوري الدرجة الأولى في أوروغواي في هذا الموسم 2017 ــ 2018 بفقدان أحد فرقه. عشية انطلاق مباراة الجولة الأولى، انسحب تانك سيسلي بسبب عدم قدرته على سداد ديونه. وهكذا استمرت البطولة مع عدد فردي من الأندية المشاركة. يبدو أن حجم الديون المعنية، حسب معيار كرة القدم العالمية، كان كبيراً بشكل مبالغ فيه. يقال إن تانك سيسلي مدين بمبلغ 357 ألف دولار، لكنه لم يتمكن إلا من جمع نحو 250 ألف دولار. وهذه أرقام في أوروبا تدفع إلى لاعب احتياطي في مانشستر يونايتد، كراتب أسبوع واحد. لكن الأوروغواي ليست من بلاد «المركز»، ويجب ألّا ننسى أنها في أميركا اللاتينية.
يمكن تقسيم أندية الدرجة الأولى في الأوروغواي، في الأساس، إلى ثلاث مجموعات.

رأينا مواهب الأوروغواي تتجه إلى إسبانيا وإيطاليا

هناك عملاقان هما بينارول وناسيونال، وهما فريقان يتميزان بحفاظهما على تقاليد الأجداد. هناك أندية أصغر، مثل ديفنسور ودانوبيو، التي نادراً ما تفوز بلقب الدوري، ولكنها غالباً ما تكون متنافسة، ويمكنها أن تفخر بعدد اللاعبين الممتازين الذين طوروهم على مر السنين. وهناك بقية مثل تانك سيسلي، وهي في الأساس نوادي الأحياء، وممثلة لبضع شوارع من المدينة. في بيئة العولمة، من الواضح أن من الصعب على أندية أوروغوايانية المنافسة. يجمع بينارول وناسيونال لثمانية ألقاب في كأس ليبرتادوريس، بطولة دوري أبطال أميركا الجنوبية، لكن آخرها يعود عام 1988. منذ ذلك الحين، لم يكن للبلد أثر يذكر على المنافسة. وصل دانوبيو إلى الدور قبل النهائي في عام 1989، جنباً إلى جنب مع ناسيونال في عام 2009 وديفنسور في عام 2014، وذهب بينارول إلى النهائي في عام 2011.

متحدون
شكّل اللاعبون، الذين خاب أملهم من اتحاد كرة القدم في الأوروغواي، منظمة تدعى «متحدون أكثر من أي وقت مضى»، وفي أعقاب انسحاب تانك سيسلي أصدرت المنظمة بياناً جاء فيه: «لدينا كرة قدم تجد نفسها مغمورة في نظام فاسد، بفوائد وثروات قليلة، بعيداً عن الشفافية والنزاهة، لا يملك عقوداً كافية للاعبين، ويتغاضى عن الظروف المروعة للبنى التحتية للنوادي، لا يقوم بمراجعة حسابات الإدارة ولا يزال يتفاوض مع المؤسسات الرياضية الرأسمالية، التي لا تعطي الرياضيين حقوقهم».
النموذج الأبرز الذي ينتقده اللاعبون المتجذر في الكثير من أندية أمريكا الجنوبية هو نموذج «نادي العضوية». الفرق هنا ليست شركات، هي مؤسسات عضوية، ينتخب أعضاؤها الرئيس كل بضع سنوات. هذا في الأساس نموذج للهواة، غير فعال تماماً، ليس فقط من الناحية التجارية، ولكن أيضاً لأنه يسمح باستمرار الاقتتال السياسي الدائم داخل المؤسسة. هذا عامل إضافي في نمو العصابات. بطبيعة الحال، يمكن أن يؤدي التنظيم الأكثر احترافاً إلى معالجة الأمور بنحو أفضل، ولكن إلى أي مدى؟ كرة القدم عمل غير مستقر، وحجم الأوروغواي وقوتها الشرائية يفرضان قيوداً وشروطاً قاسية، ويجب أن يكون ذلك مفهوماً، عند الحديث عن كرة القدم هناك.

إدارة جديدة للأزمة
ثمة نموذج جديد لإدارة الفرق في الأوروغواي: «تروك». وهذا الفريق هو جزء من مجموعة سيتي فوتبول غروب، بقيادة مانشستر سيتي، بالإضافة إلى ملبورن سيتي ونيويورك سيتي إف سي. فريق بإدارة رأسمالية خالصة، مثل معظم فرق العالم حالياً. ولكن من غير المحتمل أن يجتذب هذا الفريق جماهير الأوروغواي سريعاً، لكنه قد يكون مدخلاً لحل «أزمة» بأدوات الأزمة نفسها. هذا النجم، على مستوى الأندية، لن يلمع لفترة طويلة في الأوروغواي التي من المفترض أنها «واحة أمريكا الجنوبية». لكن أميركا الجنوبية، في النهاية، هي أميركا الجنوبية.