عشية انطلاق كأس العالم 2014 في البرازيل، عنونت صحيفة «ماركا» الرياضية: «كأس الكل ضد إسبانيا». عنوانٌ آنذاك بدا لكثيرين في محله استناداً إلى الهالة الكبيرة التي أحيطت بالإسبان قبل المونديال المذكور، بسبب سيطرتهم في العقد الأخير على عالم الكرة. لكن النكسة المونديالية الإسبانية غيّرت الصورة، فخسر الإسبان اللقب، لكنهم يعودون اليوم وهم مرشحون لاستعادته.«إنه المنتخب الأفضل في العالم، ولديه اللاعبون الأفضل في كل المراكز، ومن الصعب على أي منتخب الفوز عليه». بهذه الكلمات، وصف المهاجم الدولي الإسباني الشهير دافيد فيا صورة منتخب بلاده قبل كأس العالم 2018. كلامٌ فيه الكثير من العاطفة الوطنية، لكن أيضاً الكثير من الحقيقة، إذ لا ينقص إسبانيا أي شيء للفوز بالكأس الذهبية للمرة الثانية في تاريخها. فيا (59 هدفاً دولياً) لم يعد ضمن الخيارات المطروحة، واعتزل «العقل المفكّر» شافي هرنانديز، ومثله فعل شريكه في خط الوسط شابي ألونسو و«الصخرة» كارليس بويول، كما بات فرناندو توريس خارج الحسابات أيضاً. لكن منتخب «لا فوريا روخا» (الغضب الأحمر بالإسبانية) أنهى التصفيات الأوروبية المؤهلة إلى المونديال الروسي من دون أي خسارة، حيث امتلك تشكيلة بدت جاهزة لوراثة سابقتها وتكرار ما فعلته في مونديال 2010.
ستلعب إسبانيا في مجموعة قوية مع البرتغال بطلة أوروبا، وصاحبتي الدفاعين الحديديين إيران والمغرب. لكنها «مطمئنة» نسبياً. مرحلة التجديد حملت المدرب لوبيتيغي الى اتخاذ قرارات جريئة ومليئة بالمغامرات، اذ منذ تسلّمه مهماته قبل أقل من عامين استدعى إلى تشكيلته 44 لاعباً، فضخّ الأسماء الشابة تباعاً كأساسيين، أمثال ماركو أسينسيو وساوول نيغويز، وطلب لاعبين لم تُعرف أسماؤهم دولياً سابقاً، على غرار الفارو أودريوزولا وياغو أسباس (رغم أنه لعب لليفربول سابقاً). وبهذه الأسماء كسب رهانات كثيرة، فكان التأهل من مجموعة ضمته الى إيطاليا، لتأخذ إسبانيا جرعة ثقة كبيرة بأنها عادت الى طبيعتها.
وفي خضم هذه القرارات الجريئة وفتحه الباب للاعبين، اعتقد البعض بأنهم لن يرتدوا ألوان المنتخب بعد الآن (أمثال دافيد فيا)، كان لوبيتيغي ذكياً بعدم المساس بالركائز الأساسية، وعمل على تجميل الصورة حولها. ففي مشواره حتى الآن، لم يُخرج مثلاً دايفد سيلفا من تشكيلته الأساسية في أي مباراة. وما المباراة التي سحق فيها الأرجنتين 6 ــ 1 وديّاً إلا الدليل القاطع على أنه «ممنوع الغلط» أمام الإسبان.
أما تأثير إينييستا فبدا واضحاً، وهو أمر سيعتمد عليه الاسبان في المونديال الروسي، وخصوصاً ان «الرسام» سيخوض آخر بطولة على مستوى عالٍ، وبالتالي يؤمل ان يفرغ كل ما عنده من ابداعات، من خلال تمريراته السحرية التي تعرف مكان كل لاعب على ارض الملعب.
ببساطة، عندما تكون الكرة بين قدمي صاحب الهدف الذهبي في نهائي مونديال 2010 امام هولندا، على المهاجمين ان يتحضروا فقط لهزّ الشباك. وهذه المهمة ستكون منوطة بألفارو موراتا ودييغو كوستا. وفي هذا الخط نقطة الضعف الوحيدة، رغم الامكانات الجسمانية المميزة التي يتمتع بها اللاعبان والتي تحتاج إليها خطة لوبيتيغي بحيث يمكنهما استقبال الكرات العرضية برأسيهما، كما يمكن للاعبي الوسط الاستناد إليهما لفكّ اي حصار. لكن موراتا عاش موسماً صعباً مع تشلسي وتراجع مستواه التهديفي، بينما بقي كوستا بعيداً عن الملاعب حتى مطلع السنة عندما التحق بأتلتيكو مدريد ليؤكد أنه لا يزال يعرف الطريق الى المرمى، وهو الذي لم يقدّم يوماً الأداء المنتظر منه على الساحة الدولية، على غرار ما فعله مع الأندية التي دافع عن ألوانها.
هي «الأرمادا» الإسبانية التي تجهّز أسلحتها الثقيلة، وما أكثرها، إذ لا يمكن إغفال أنها قبل أن تطلق مدافعها الهجومية، فهي تحمي نفسها بدروعٍ قوية، ويكفي ذكر اسمي الحارس دافيد دي خيا والقائد المقاتل سيرجيو راموس للتأكد من هذا الأمر.


تشارك اسبانيا في كأس العالم للمرة الـ 11 توالياً والـ 15 في تاريخها
نسبة التمريرات الناجحة لدى إسبانيا وصلت إلى 91% خلال التصفيات وهي أعلى نسبة من بين جميع المنتخبات الأوروبية
لم يخسر لوبيتيغي منذ تسلّمه قيادة المنتخب عام 2016 خلال 16 مباراة متتالية
سجّلت إسبانيا 36 هدفاً في التصفيات، من بينها 31 هدفاً من داخل منطقة الجزاء وخمسة من خارجها


خولين لوبيتيغي


من نقاط القوة في التشكيلة الاسبانية، ليس أحد اللاعبين تحديداً، بل المدرب خولين لوبيتيغي، فهذا الرجل الذي شكك كثيرون في امكانية صناعته الفارق كونه أتى الى التدريب من خلفية حارس مرمى سابق، ترك بصمته الواضحة في أداء «لا روخا».
لوبيتيغي كان ذكياً جداً عندما عمل على ابقاء اللاعبين الذين زرعوا البذور المثمرة طوال سنوات مع المدربين الذين سبقوه إلى المهمة الوطنية، فقام ببناء تشكيلته حولهم، فالاستمرارية هي بلا شك الحجر الأساس في النجاحات التي حصدها الاسبان بعد المونديال المشؤوم في البرازيل. لم يكن بامكان لوبيتيغي تجاهل سبعة أعوام من العمل الجادّ الذي قام به سلفه فيسنتي دل بوسكي. وهذه الاستمرارية لم تكن لتأتي من دون الاعتماد على المواهب الصاعدة وعددها كبير جداً في اسبانيا. والأهم الاعتماد على مدرب يعرف هذه المواهب، فكان لوبيتيغي الذي عمل سابقاً مدرباً لمنتخبات الفئات العمرية الرجل المناسب للمهمة التي أرادها دمجاً بين الماضي والمستقبل.
في الواقع، لم يبدّل من الفلسفة المعتمدة الا قليلاً. أبقى على الاستحواذ والتمرير السريع اللذين كانا سبب نجاحات «لا روخا» وسيطرته المطلقة في الملعب وعلى منصات التتويج. ولهذا الغرض، تمسّك بلاعبٍ مثل أندريس إينييستا وجدّد الثقة بدافيد سيلفا، وأعطى إيسكو دوراً أكبر (سجل 5 أهداف في التصفيات)، فالمهارة والدقة في التمرير هما أمران لا غنى عنهما في الفلسفة الاسبانية.


هيمنة النادي الملكي على أوروبا


في السنوات الخمس الماضية، نجح ريال مدريد في الوصول إلى نهائي دوري أبطال أوروبا في أربع مناسبات. باثني عشر لقباً «للميرينغي»، يتصدر بها ترتيب أكثر الفرق تحقيقاً للقب «كأس الأذنين»، يليه نادي ميلان الإيطالي بـ7 ألقاب، يسجّل ريال مدريد حضوراً مدوياً في أوروبا. إلاّ أن هذا الأمر، لم يكن له التأثير الواضح بالمنتخب الإسباني، بل على العكس تماماً، ففيما كان النادي الملكي قد توّج عام 2014 باللقب، في حين آخر كان المنتخب الإسباني يعاني أمام آريين روبين وروبن فان بيرسي في المونديال الأخير الذي أقيم في البرازيل. فشتّان ما بين تأثير الجيل الذهبي للفريق الكاتلوني وبيب غوارديولا بأداء المنتخب وبين تأثير «الريال» ومدرّبه زيدان. فإذا عدّدنا العناصر الأساسية من النادي الملكي التي تحجز مركزاً أساسياً مع إسبانيا، فهم ثلاثة لاعبين: راموس، كارفخال، وإيسكو. ومع ذلك، وحتى مع نهاية حقبة «البلاوغرانا» ونهاية أسطورة «التيكي تاكا»، تستمرّ إسبانيا في مضيّها على النهج ذاته والتوليفة ذاتها. فنرى تشابه واضح بين طريقة لعب لوبيتيغي وطريقة لعب بيب غوارديولا مع مانشستر سيتي. أضف إلى ذلك عدم وجود الكثير من اللاعبين «الإسبان» في التشكيلة الأساسية التي يدخل فيها زيدان المباريات. فنرى الكرواتي والويلزي والفرنسي والألماني وغيرها من الجنسيات. طبعاً لكل فريق الـ«ERA» التي يتميّز بها ويسيطر فيها على أوروبا، من ليفربول الثمانينيات وميلان التسعينيات وأياكس السبعينيات من القرن الماضي، وصولاً إلى برشلونة وريال مدريد في الألفية الجديدة. إلّا أن التأثير مختلف وطريقة اللعب مختلفة بين كبار إسبانيا ومن ترك بصمته التي لم تُمحَ حتى الآن من قاموس المنتخب الإسباني، على الرّغم من تغيير المدرّب وكثير من الأسماء التي لم نعد نراها في إسبانيا اليوم.


لويس أراغونيس: بداية الصحوة


سجّل فيرناندو توريس «النينو» هدف المباراة الوحيد بعد تمريرة سحرية خرقت دفاع الماكينات الألمانية من «مايسترو» خط الوسط الإسباني ونجم برشلونة تشافي هرنانديز. ظلّت النتيجة على حالها طوال اللّقاء، فاز منتخب المدرب لويس أراغونيس بلقب كأس الأمم الأوروبية لأوّل مرّة منذ عام 1964 (44 عاماً). حصل تشافي على جائزة أفضل لاعب في البطولة الذي ظهر بشكلٍ رائع جداً، حيث ساهم ذكاؤه ورؤيته المميّزة للملعب، بالإضافة إلى دقة تمريراته وتوزيعاته للكرات بتألقه الملحوظ خلال مسيرة المنتخب في البطولة. نال زميله في المنتخب المهاجم دافيد فيا لقب هدّاف البطولة برصيد أربعة أهداف. من هنا وتحديداً من هذه البطولة، كانت بداية لمرحلة جديدة في تاريخ إسبانيا والمنتخب الاسباني.