يتسابقون لنيل الأهداف. يرفعون إشارات النصر عند هزّ شباك «الخصم». هو ليس مجرّد هدفٍ تليه نشوة الفوز. في حسابات الرياضة العالمية، غدا الهدف رقماً صعباً لصاحبه. تحوّل مع الزمن إلى ثقافةٍ قائمةٍ بحدّ ذاتها. عدّاد الأهداف الذي لا يتوقف على مدار العام، بات يصنع نجوم كرة القدم. نحن على أبواب المونديال: يقف العالم على بعد شهرٍ من الحدث الرياضي الأضخم. تتجه الأنظار إلى روسيا. البلد المستضيف لمباريات كأس العالم 2018 للمرة الأولى في تاريخه. تبعد روسيا عن لبنان آلاف الكيلومترات، إلّا أنّ ذلك لم يمنعه من خوض معركة «الكأس» عن بعد. يغيب المنتخب الوطني عن البطولة منذ عقود، بل لم يتأهل في تاريخه. لكن يجد شعبه في حبّهم للمنتخبات الأجنبية سبيلاً في تعويض العجز الرياضي. أسطح المباني ستضيق بأعلام المنتخبات المشاركة. ستتعثّر بالأسلاك الكهربائية المتشابكة، فتضيع ألوانها ويصعب تميزها. الشاشات الكبيرة جهّزت لنقل الحدث. قلوب المشجعين تخفق قلقاً بانتظار صافرة البداية بين المنتخبين الروسي والسّعودي.لطالما عرفت لعبة كرة القدم باللعبة الشعبية الأولى في العالم. لا يتردد أغلب المشجعين بوصفها «بالحياة»، وهي المتنفس الوحيد للشعوب الفقيرة والغنية. يتعدّى «الشغف» بالفوتبول حاجز الربح والخسارة. أضحت العلاقة بين المشجّع والفريق أشبه بعلاقة الأمِ بطفلها. لا ينسلخ الأول عن الثاني مهما كانت نتيجة المباراة. يتجذّر المشجّع بتاريخ فريقه. يدافع عنه. يحفظ هوّيته كمن يحفظ ذاكرة بلدٍ بأكمله. واللبنانيون لديهم في فرقهم مذاهب.

إيطاليا: الشّعب الودود
عادةً ما يحاول المشجع في أولى مراحل نضوجه تقليد أفراد العائلة. يتأثر الولد بوالده. يستقي منه مفاتيح التشجيع وأساليبه. يحفظ أسماء اللاعبيين ويرددهم، ويتماهى بنجم المنتخب. يجمع كل المشجعين على أنّ تشجيع منتخبٍ ما يكون بريئاً في البداية، ومن ثمّ يكبر ويتطور مع الوقت، إلى أن يغدو أسلوب حياة. لا يخفي الصحافي الرياضي محمد خليل أنّ «بداية تشجيعه للمنتخب الإيطالي في كأس العالم عام 1994 يعود لحبّه للاعب روبيرتو باجيو، قبل أن تصير إيطاليا محور حياته الرياضية». ولكن لماذا إيطاليا؟ يشير خليل إلى أنّه حاول البحث عن تاريخ المنتخب أكثر، «فشعر بالفخر من انتمائه إليه بعدما علم أنّ الرئيس الإيطالي السّابق ساندرو بيرتيني قدّم كأس العالم الذي فازت به إيطاليا عام 1982 للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بعد مجزرة صبرا وشاتيلا»، إضافة إلى إنّ «الشعب الإيطالي يعتبر شعباً ودوداً واجتماعيّاً وعاطفيّاً، وليس بارداً كالشعب الألماني مثلاً».

شكّل السّفر إلى إيطاليا، من دون سواها من البلدان الأخرى، تحدّياً كبيراً لدى خليل خوفاً من أن «يعامل بعنصريّة مما قد يشكّل له خيبة أملٍ كبيرة». «اخترت مدينة «نابولي التي أشجع فريقها وأحفظ تاريخها، مما ساعدني في الانخراط بالنّسيج الاجتماعي الإيطالي أكثر»، يقول. هذا في الشّكل. أمّا في المضمون، ومن جهةٍ أخرى، فقد ساهم العيش مع الشعب الإيطالي وفهمه للغة الإيطالية إلى «تخفيف حدّة التشجيع» لدى خليل. يدرك خليل أنّ الشعب العربي أو اللبنانيّ خاصّة «متعصّب لمنتخب إيطاليا أكثر من الطليان أنفسهم»، مشيراً إلى أنّ «إيطاليا بلد قائم بحدّ ذاته ويتّخذ موقفاً معارضاً أحياناً اتجاه بعض المواضيع والقضايا المصيرية بالنّسبة إلينا». يجد مسوغات على مقاس شغفه المتوارث منذ الطفولة.

«روالدو»: الشّعب البرازيلي يشبهنا
يرتبط اسم الصحافي الرياضي رواد مزهر بالنّجم البرازيلي «رونالدو». وهو الذي عرف بين عائلته لفترة طويلة بالاسم المستعار «روالدو». تحوّل منزل مزهر منذ عام 1994 إلى رابطة لتشجيع المنتخب البرازيلي. ضاقت الجدران بصور اللّاعبين، وغصّت درف المكتبة لديه بصفحات الرياضة في جريدة «السفير». يتابع مزهر المنتخب منذ سنوات طويلة. خلق صداقات مع مواطنين برازيليين وانخرط في ثقافة مجتمعهم ولو من بعيد، خصوصاً أنّ «الشعب البرازيلي يشبهنا كثيراً من ناحية الفقر أو الوضع الاقتصادي الصّعب» يقول مزهر، مشدّداً على «حبّه للمواطن البرازيلي أكثر من الألماني أو الأرجنتيني أو الفرنسي مثلاً، لأنّهم غير مقربين أبداً للمشجع البرازيلي».
يدرك خليل أنّ الشعب العربي أو اللبنانيّ خاصّة متعصّب لمنتخب إيطاليا أكثر من الطليان أنفسهم


يجمع مزهر بين شغفه بالمنتخب البرازيلي وعمله بالمجال الرياضي. يتابع المنتخب في الألعاب الأولمبية ومنتخبات الشباب والناشئين، ولا يغفل أبداً عن أية بطولة حول العالم كتصفيات كوبا أميركا. هكذا غدا المنتخب البرازيلي أسلوب حياةٍ لا ينفصل عن يومياًت مزهر، وهو الذي يحفظ كل أسماء اللاعبين البرازيليين الذين يشاركون في بطولاتٍ عالميةٍ معروفةٍ وغير معروفة. يتباهى بفريقه، كإشارة حاسمة منه للولاء: يسَجّل للمنتخب البرازيلي حصد 5 بطولات في كأس العالم آخرها عام 2002. واليوم يتطلّع مزهر كفردٍ من مشجعي المنتخب إلى تحقيق الفوز مرةً جديدة، «فالبرازيل لا تدخل إلى المونديال إلّا وتكون مرشّحة لنيل البطولة». القصة تتجاوز الشغف.

نجوم «التيكي تاكا» الأصليين
لا تغيب المباراة «المجنونة» بين المنتخبين الهولندي واليوغوسلافي في كأس أوروبا عام 2000 عن ذاكرة مشجع المنتخب الهولندي محمد بزّي. تترسّخ الأهداف الست التي حصدها المنتخب آنذاك في محطّات طفولته. بزّي الذي يرى بالمنتخب الهولندي محور كرة القدم العالمية، امتنع عن متابعة «مونديال 2002» لعدم تأهل هولندا إلى البطولة، فـ «من دون هولندا يفتقد اللّعب الجميل»، بحسب قوله. ويضيف: «منتخب الطواحين الذي يتميّز بالكرة الشاملة، كان أوّل من استخدم ما يعرف بالـ«تيكي تاكا» من خلال «الأسطورة يوهان كرويف». وهو يتحدث هنا، عما يعرف في أدبيات متابعي الفوتبول بالـ«كرة الشاملة».
يصرّ بزّي على أنّه «لا يمكن للمشجع تشجيع فريقٍ ما من دون أن يحصد بطولةٍ معيّنة أو يقدّم لاعبوه مستوى مميّزاً»، مؤكّداً أنّ «ما يميّز الشغف اتجاه كرة القدم عن غيرها من الألعاب الأخرى هو الانتماء إلى كيانٍ كامل، من بلد المنتخب إلى ثقافته وسلوكه الاجتماعي ونمط عيش شعبه سعياً لتقليدهم والتمثّل بهم».

مهارات الأرجنتين في لبنان
يتابع لاعب نادي النجمة حيدر خريس تمارينه اليومية بانتظام. يضفي على مهاراته «اللبنانية» بعض المهارات «الأرجنتينية». يراقب أداء «أفضل لاعب في العالم»، على حدّ وصفه، ليونيل ميسي بتأنٍّ ويتعلّم منه، «بغض النظر عن إمكانية تطبيق كل المهارات المكتسبة من الخارج في لبنان».


يحاول، ولكن المسافة طويلة، وإن كانت الأحلام مجانية. خريس لا يكترث. اللاعب الناشئ في لبنان، يشجّع المنتخب الأرجنتيني بجنون، بعدما عرف أنّ الشعب الأرجنتيني لديه جنون التشجيع أيضاً. وهذا ما دفعه لتعلّم اللغة الاسبانية ولو بخجل، حتى «يشارك الأرجنتينيين بالتشجيع على مدرجات الملاعب الروسيّة». هكذا التلفزيون يصير مدرجاً من المدرجات، والحلم منصة..


من التعصّب إلى الوعي

يزداد الوعي الرياضيّ لدى المشجّع كلّما تعمّق في متابعته للرياضة. فعادةً ما يتابع المراهق كرة القدم من خلال عاطفته، قبل أن يتصرف بعقلانية أكبر، لا سيما إذا كانت كرة القدم جوهر عمله. الصحافيّان محمد خليل ورواد مزهر عينة من هؤلاء. بحسب خليل، الموضوع يتحوّل من «ولاءٍ أعمى وانتماءٍ مطلق إلى تشجيعٍ رياضيٍّ بحت». «فمثلاً إيطاليا لم تتأهل إلى كأس العالم، وهذه «نتيجة طبيعية لسوء التخطيط والإدارة لمنظومة كرة القدم ككل في إيطاليا». يسأل خليل: هل نتقبل الموضوع؟ ويجيب: طبعاً. «لأنّ الأمر متوقع منذ سنوات، لكنّني أشعر بالبرود اتجاه كأس العالم في حزيران المقبل ولن أمارس أي طقسٍ من الطقوس المتعلقة به». في المقابل، يؤكّد مزهر أنّ «تشجيع البرازيل كان أصعب في الفترة الماضية، لكن مع مرور الأيام تزداد الروح الرياضية والفهم الأعمق للعبة، فلا يعود الاختلاف مع الآخرين لمجرد تشجيع منتخبات منافسة».
هكذا أضحت مباريات كأس العالم وبإجماع مشجعي المنتخبات المتنافسة، ثقافة حقيقية، تكتب بها سطور التاريخ، وقد تشكل شهرة للبلد مهما كان صغيراً. كما حصل المنتخب الأيسلندي الذي حقق نتائج مميزة أعطت للدولة الأيسلندية شهرةً واسعة وتركت أثراً كبيراً حول العالم في كأس العالم 2014، قبل أن تتأهل اليوم إلى البطولة مرة أخرى.