أول من أمس، احتفل البرازيلي رونالدو بعيد ميلاده الأربعين. كبر "الظاهرة". تبدلت ملامحه. لم يعد كما كان. لكن صورته التي التصقت في المخيلة لم تتبدل. لا تزال هي هي.لم تكن هذه المناسبة الرمزية، التي شغلت مواقع الصحف العالمية وخصوصاً الإيطالية، تستدعي وحدها عودة الحديث عن رونالدو، إذ من قال إن هذا اللاعب دخل يوماً طي النسيان؟ وكيف يمكن أن يحدث ذلك للاعب كان سابقاً لعصره ولم يكن هناك مناص أمام الطليان، الذين خبروه عن قرب، إلا أن يسمّوه "الظاهرة"؟
أن تحب الكرة يعني أن تحب رونالدو فهو وجه الكرة الجميل الأخاذ

كان رونالدو "الظاهرة" بعينها. ظاهرة في كل شيء. في تحركاته على أرض الملعب، في خطواته، في تسديداته، في مراوغاته التي يطيحها الخصوم يمنة ويسرة، في سرعته مع الكرة التي لم يكن لها مثيل، في قراراته الحاسمة والثاقبة.
ظاهرة رونالدو لم تتوقف على هذا السحر الذي تجلى بأبهى صوره وخطف القلوب والألباب، ولا على إنجازاته مع الفرق التي لعب لها ومنتخب بلاده والجوائز الفردية التي حصدها، بل على وداعة هذا النجم التي جعلته قريباً من الجميع ومحبوباً حتى من الخصوم، كيف لا وقد تميز رونالدو بأدائه النظيف الخالي من الاعتراضات والخشونة على أرض الملعب، والمتزن الهادئ خارجه في إطلالاته الإعلامية وحياته الخاصة البعيدة عن الضوضاء والصخب.
أن تحب الكرة يعني أن تحب رونالدو. هو وجه الكرة الجميل الأخاذ. الكرة هنا، في حالة رونالدو، تخرج من عالمها الحسي والمادي، لتصبح سحراً وخيالاً كانسياب مياه نهر عذب يروي العطش بالفن الكروي الرائع. سحر تعبّر عنه تلك الكلمات الساحرة التي قيلت في "الظاهرة": "لقد كان أسرع شيء على الإطلاق أراه يركض بالكرة. لو تجنب الإصابات، لكان بإمكانه أن يكون أعظم لاعب كرة قدم على الإطلاق"، هذا ما نطق به "السير" الإنكليزي بوبي روبسون ذات يوم عندما كان العالم بأسره مشدوهاً بفنيات هذا النجم الذي جسّد سحر كرة أميركا الجنوبية في قلب أوروبا كما لم يفعل غيره، ما حوّله إلى ملهم لكثيرين تسابقوا لينهلوا من مدرسته. نعم، لقد شكل رونالدو منهاجاً له علومه الخاصة التي يصعب إدراكها والوصول إليها، تماماً كما مواطنه "الملك" بيليه و"الأسطورة" الأرجنتيني دييغو أرماندو مارادونا.
رونالدو هو من فلك بيليه ومارادونا. من ذاك الفلك الذي لم يقربه إلا القلة القليلة في تاريخ "الساحرة المستديرة". هناك، حيث تتحول الكرة إلى نجمة تسبح في السماء، وإلى لوحة بأحلى الألوان. هناك حيث تتوقف عقارب الزمان، وترسم الأمكنة (الملاعب) أحلى الصور بأقدام لاعب فنان.
هو الفن كله تجسد يوماً في رونالدو. كنا نرقب مبارياته منذ انبلاج شمس الصباح. ننتظر على أحرّ من الجمر حلول المساء، لنركب زورق هذا النجم ونبحر معه في بحر مهاراته. لم يكن الوقت يرهقنا. مع فنياته الكروية كانت الساعة تمر كأنها لحظات. لحظات كنا نتمنى لو تطول إلى سنوات.
هي سنوات مرّت لم نشبع فيها من سحر هذا النجم، أما الأجيال اللاحقة فصدح صوتها: يا ليت الزمان يعود بنا إلى الوراء، لعلنا نتذوق بعضاً من عسل كرته ونشم عطر وردة من بستان مهاراته.
نعم، محظوظ من شهد زمن رونالدو، وغفا بعد مبارياته حالماً بفنياته، ومرتشفاً قهوة الصباح يقرأ عناوين هذا النجم في الصحف وما صنعه في المساء. هي أمسيات كثيرة ستظل في البال.
أول من أمس، أطفأ رونالدو شمعته الأربعين. كبر "الظاهرة"، لكنه حتى في الثمانين سيبقى ذاك الشاب الساحر الذي يسرح في المخيلة على مرّ السنين.