18 عاماً مضت على استضافة فرنسا لذاك المونديال الناجح بكل المعايير: فنياً بفوز زين الدين زيدان ورفاقه بالكأس، سياسياً مع اسقاط الرئيس السابق جاك شيراك لعنصرية خصمه الشهير جان ماري لو بان، واجتماعياً مع الاحتضان الكبير للشعب الفرنسي لمنتخبٍ جلّه من ابناء المهاجرين الذين عانى كثرٌ منهم من العنصرية في محطات عدة في مسيرتهم.
تعيش فرنسا اياماً عصيبة امنياً واجتماعياً وحتى كروياً
و16 عاماً مضت على رفع ديدييه ديشان لقب كأس اوروبا للمرة الثانية والاخيرة بالنسبة الى فرنسا. ومنذ تلك اللحظة والبلاد بأسرها تنتظر لحظة تقديم نفسها مجدداً في واجهة كرة القدم العالمية.
قبل 6 اعوام تحديداً، مُنحت فرنسا شرف استضافة كأس اوروبا 2016، التي صنّفها البعض البطولة الاهم في تاريخ اللعبة كونها ستضم للمرة الاولى 24 منتخباً من المستوى الرفيع. كل اوروبا تحمّست في تلك اللحظة للحلول ضيفةً على باريس الساحرة والمدن المضيفة الاخرى، لكن في الامس القريب تغيّر كل شيء، وتحديداً بعد الهجمات الارهابية الدموية التي حدثت اواخر العام الماضي، ومن ثم التظاهرات والاضرابات التي يمكن ان تعطّل البطولة.
ببساطة عاصمة النور تستضيف اليوم بطولة اوروبية لتضيء ظلمتها. ظلمة عكستها الظروف التي واجهت فرنسا فنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وامنياً وحتى ادارياً اذا ما ذهبنا الى ذكر اسم ميشال بلاتيني في تناولنا ما يمكن ان نرسمه من مشهد حول "يورو 2016".
برج ايفل سيضيء كمنارة ترشد محبي كرة القدم في اوروبا والعالم الى المكان الحدث المفترض ان يكون افضل من نسختي 1960 و1984 اللتين استضافتهما البلاد. لكن كل هذا يتوقّف عند مسائل اساسية، منها نجاح المنتخب الفرنسي على المستطيل الاخضر بشكلٍ يعيد الثقة المفقودة عند شريحة كبيرة من الفرنسيين الذين يعيشون حالة احباط وخوف. هم يشعرون ان البطولة التي كانت نعمة دائماً على البلد المضيف اصبحت نقمة بالنسبة اليهم، وخصوصاً اذا ما تحوّلت الى مغناطيس جاذبٍ للباحثين عن اراضٍ خصبة لزرع ارهابهم. ومنتخب "الديوك" الوحيد القادر على تغيير الصورة التي باتت نمطية في الآونة الاخيرة عن فرنسا، التي صُنّفت من البلدان الخطيرة في اوروبا. وهنا المقصود ان منتخب المدرب ديدييه ديشان ومع بعض النتائج الجيدة يمكن ان يشتت اذهان الفرنسيين عن القلق الذي يعتريهم ويجعل كل تركيزهم نحو ارضية الميدان حيث البحث عن لقبٍ طال انتظاره.
اوروبا كلّها بحاجةٍ الى نجاح فرنسا في الاستضافة

وهنا تحديداً يمكن التأكد من مدى حاجة فرنسا الى استضافة هذه البطولة بعكس ما ترى الكثير من التيارات السياسية في البلاد، وطبعاً تلك الجهات النقابية التي تهدد اليوم "يورو 2016" من خلال ما تقوم به في نقاطٍ حساسة قد تعطل كل شيء وتزيد من المحن التي عاش الكل تحت وطأتها لأشهرٍ عدة.
اجتماعياً تحتاج فرنسا لاستضافة هذه البطولة ايضاً مع عودة الداخل الفرنسي الى نبذ فئةٍ معيّنة من المقيمين في البلاد او المهاجرين اليها منذ زمنٍ طويل، فالتقارير كثيرة عن مضايقات تحصل في مدارس وجامعات وحتى اندية رياضية على خلفيات دينية وعرقية، وتحديداً منذ هجمات تشرين الثاني الماضي. وهذه المسألة وصلت حتى الى اتهام ديشان من قبل رموزٍ في البلاد بالمساهمة فيها، وذلك مع استبعاده لاعبَين مميَزين من اصولٍ عربية، هما كريم بنزيما وحاتم بن عرفة. وما فوز فرنسا باللقب بفريقٍ ابيض واسمر ومليء بأبناء المهاجرين تماماً كما كان عليه الامر ايام العزّ الا تأسيساً لمرحلةٍ جديدة تعيد مدّ الجسور بين ابناء البلد الواحد المختلفي الإتنيات.
فعلاً هي الظلمة في كل شيء يحيط بفرنسا، اذ حتى ادارياً كانت الضربة قوية مع ايقاف رئيس الاتحاد الاوروبي للعبة وعرّاب استضافة البلاد للعرس القاري، ميشال بلاتيني، الذي يعدّ رمزاً من رموز الكرة هناك. وما النجاح في اخراج بطولة بمستوى تنظيمي ممتاز الا دليل على استحقاق فرنسا لهذه الاستضافة وابعادها عن الشبهات التي قالت ان بلاتيني تحيّز لبلاده ومنحها البطاقة الذهبية لفتح ذراعيها لأوروبا.
اوروبا كلها تحتاج الى نجاح فرنسا في الاستضافة، فهي مع هذا النجاح ستخرج من ظلمة التهديدات الكثيرة التي تحيط بها وتعيد التأكيد بأنها قلب العالم وروح كرة القدم، وبأن دورها الاقتصادي والأممي لن تتنازل عنه لأي قارة اخرى، فهناك ولدت الحضارة وولدت الكرة واشرقت شمس المعرفة من العصور المظلمة لتصبح كل بلدان "القارة العجوز" امثولة حول تأسيس أمّة مثالية.