يحمل أبو الفوز، حافظتَي الماء الساخن والبارد، مع حقيبة مملوءة بما تيسّر من ظروف، المشروبات الساخنة والبسكويت، ليطوف في أرجاء حديقة تشرين، في العاصمة دمشق، بحثاً عن زبائنه الذين غالباً ما يكونون من العشاق، فالأسر التي تأتي إلى الحديقة تحمل معها ما تحتاج من طعام وشراب. يحكي أبو الفوز لـ«الأخبار» بعض ظروف عمله، ويشرح أن «المردود يصبح أقلّ خلال فصل الشتاء لسببين: الأول يتعلق بالطقس، والثاني بالتقنين الكهربائي، الذي يحوّل الحديقة الأكبر في العاصمة إلى مدينة للأشباح بفعل الظلام الدامس الذي يكسوها». في الوقت نفسه، «الظلام قد يكون مناسباً لبعض من يرتاد الحديقة للبحث عن لحظات رومانسية، أو أفعال منافية للحشمة»، وفق تعبير أبو الفوز، الذي يؤكّد أنه «يحترم رغبات زبائنه بالخصوصية التي لا يحصلون عليها في أي مكان آخر من العاصمة». الرجل الستيني الذي يجد في حمل بضاعته والتجوال بها، بحثاً عن زبون هنا أو هناك، يخشى من تمدّد الاستثمارات في مساحة عمله. ويصف الجزء الشمالي من الحديقة بـ «حديقة الأمراء»، في إشارة منه إلى أنها باتت محسوبة على أبناء الطبقة المخملية من المجتمع الدمشقي، وذلك بعد افتتاح مطعم ونادٍ رياضي، من عيار الـ«خمس نجوم» فيه. ويضيف: «لم أعد أقترب من ذلك الجزء من الحديقة، فالبسطاء يبتعدون عنه وكأنه بات ممنوعاً عليهم، من دون أن يفرض ذلك أحد». يسترسل الرجل في كلام، يُفهم منه أن الأمر الواقع قسّم الحديقة بين الطبقتين.لا يجد أبو الفوز، ومن يعمل في مهنته من بائعي المشروبات والبسكويت مكاناً أفضل من حديقة تشرين، فحديقة الجاحظ تعدّ من طبقة الـ VIP، وعادة ما يصطف أمام أبوابها عدد من سيارات بيع الإسبريسو، فضلاً عن الأكشاك التي تؤمّن لزائري الحديقة التي تتوسّط حي أبو رمانة، جميع ما يحتاجون، من أفخم الماركات، وبأبهظ الأسعار. ماذا عن حدائق حي المزة؟ نسأل أبو الفوز، فيجيب إن «المحافظة تمهّد لتحويلها إلى كتل من الاستثمارات»، ويضيف «الفقير لم يعد له مكان في العاصمة».
نتجول مع أبو الفوز، ونعاين أكوام التراب المكدسة وكأنها «سواتر حربية»، في الطرف الشرقي من «حديقة الطلائع»، الواقعة بالقرب من «القصر العدلي»، على أوتستراد المزة. تكتسي الحديقة بالعتم طيلة أيام السنة (سواء بوجود التقنين أو عدمه)، ما يجعل غالبية الأسر تتجنب دخولها خشية مما يكون مستوراً في الظلام. ومن الطرافة المبكية، أن تتقاسم وأبو الفوز، فنجان قهوة ونظرةً بلهاء إلى سيارات المحافظة، وقد دخلت الحديقة لترمي مخلفات عملية تقليم الأشجار على الأوتستراد. في منطقة «الفيلات المتصلة»، يمر المرء بعدد من الحدائق الصغيرة، التي تشكل مساحات فصل بين المباني في الشوارع الداخلية. يشير انعدام وجود أعمدة الإنارة إلى إهمال كبير لهذه الحدائق، وتكمل الأمر عتمة شديدة في الأزقة الضيقة الواصلة بين هذه الحدائق والأبنية. أما «حديقة الجلاء»، التي تعدّ جزءاً من «مدينة الجلاء الرياضية»، فتتحول تدريجياً نحو الاستثمارات الخاصة بـ«الاتحاد الرياضي». ويبدو أن أي مساحة خضراء في هذه المدينة وإن صغرت فإنّها تثير شهية الاستثمار.