دروب الموت إلى حلب

  • 0
  • ض
  • ض

«إنّهم يموتون على طريق حلب». أقول هذا لنفسي دائماً، لا سيّما حين يقودني القلب نحوها، وكثيراً ما يفعل. منذ فترة، لم أعد حريصاً على سؤال السائق عن الطريق الذي سنسلكه نحوها، فقد سلّمت بأن «ابن الخط» يعرف عمله جيداً، وأنّ من صفات «المسافر الصالح» أن يترك القيادة لأهلها. يوماً ما، قال الشاعر الراحل نزار قباني في مقدمة أمسية شعرية له في «عاصمة الشمال»، إنّ «كل الدروب لدى الأوروبيين توصل إلى روما، وكل دروب العشق توصل إلى حلب». هل كتبت قبل سطرين: «عاصمة الشمال»؟ أيّ شمال قصدت؟ ذاك الذي تحتله تركيا؟ أم الذي تهمّ باحتلاله؟ أم ذاك الذي يتحكم فيه «جهاديون» من أصقاع الأرض؟ أي شمال، وكلّ أبنائه وقودٌ؟ في حلب وريفها، كما في إدلب، والرقة والحسكة. ما علينا، فلنعد إلى نزار قباني، ولنستأذنه لننحتَ من كلامه عبارة باتت أدق من عبارته: «كل دروب حلب، قد توصل إلى الموت». هل يمكن مثلاً إحصاء من قطفهم الموت على طريقي «حلب ــ اللاذقيّة» و«حلب ــ دمشق»، في حرب السنوات التسع؟ (لا يزال العداد الزمني مفتوحاً). كان ذلك قبل أن يتحول الطريقان المذكوران إلى رقمَين، فيشتهر أولهما باسم M4، والثاني باسم M5. هكذا صارا يشبهاننا أكثر، «أرقام ومنفهم على بعضنا». الطريقان عينهما، باتا منذ شهور طويلة عنواناً مفتاحيّاً لشكل «الغد السوري» وما يرتبط به من تفاهمات، واستمرّ السوريون في الموت على مذبح تلك التفاهمات الغامضة. قبل سنوات طويلة، انقسمت حلب. حوصر شطراها، حيناً انقطعت الدروب إلى هذا، وحيناً إلى ذاك، واستمرّ الناس في الموت، هنا وهناك. بعدها، عادت جغرافيا المدينة إلى الالتحام، وبقي الموت قاسماً مشتركاً بين أمسها وحاضرها. لم تعد الدروب التي تودي إلى حلب كثيرة، لكنّ الموت ظلّ «وفيّاً» ومتربصاً بقاصديها، كما بأبنائها، لم يعد «درب حلب كلّو سجر زيتون»، صار الزيتون، الذي تلوّن بالدم، بعيداً. اليوم، ثمة طريق أساسي وحيد يقود إلى حلب، يُعرف باسم «طريق خناصر»، وتصحّ تسميته ــ كما اعتاد الحلبيون أخيراً ــ بـ«طريق الموت»، لكثرة الحوادث التي تقع فيه (بالمناسبة، كان أحد المداخل الأساسية إلى حلب شهيراً باسم «دوّار الموت»، وللأسباب ذاتها! يا لهذه المدينة المحظوظة و«المدلّلة» عند الحكومات). منذ اعتُمد قبل ست سنوات منفذاً لكسر حصار «الأحياء الغربيّة»، لم تغنِ الدروب البديلة عن «طريق الموت»، فهو «متنفّس» حاضر دائماً. أوجدت تطورات المعارك بديلاً هو «طريق أبو الضهور»، غير أنّ السائقين سرعان ما هجروا هذا البديل الذي أكله الخراب وسلبه «الصلاحية الفنيّة». هل تتساءلون لماذا لا يُصلحون هذا الطريق؟ قد يأتي الجواب سؤالاً معاكساً «ولماذا يصلحونه أصلاً؟». أو لماذا يفكر أحدٌ في إيجاد حل جذري لـ«طريق خناصر»؟ ماذا إذا مات البعض بين وقت وآخر بسبب حوادث الطرق؟ لن يحدثوا فرقاً كبيراً في أعداد موتانا. كما أننا متفقون على أن «الموت نهاية كل حيّ»، فلمَ الفزع؟! ثمّ إن الحلبيين يشعرون أصلاً بأنهم منذورون للموت، وأن مدينتهم «متروكة»، فهل يصحّ تخييب أملهم بسبب اهتمام مفاجئ؟ حاشا وكلّا!! ها نحن نعبر «طريق الموت» سالمين. نعرف بعد مسافة قصيرة أنّ حادثاً قد وقع على الطريق الذي قطعناه، وأودى بحياة شاب (هل يُلام أحدنا إن داخَلته راحةٌ عابرة لأنه لم يكن هدفاً لحوادث الموت هذه المرة؟). لا أظن أن «السوشال ميديا» ستضج كثيراً بنبأ موت الشاب، ثمة موت آخر أكثر عمومية يشغلنا في هذه الأيام (كما في معظم الأيام)، موت تدور رحاه هذه المرة هناك، على دروب تُفضي إلى حلب أيضاً، واقعاً ومجازاً. هناك في الشمال. الشمال الذي «ليس بجغرافيا أو جهة»، بل هو بحسب تعبير محمود درويش «مصنع الآلهة». ليعذرنا أيضاً، فالأدق في حالتنا أنه «لعنة الآلهة».

0 تعليق

التعليقات