«أهلاً وسهلاً ومرحباً فيكم. تفضلوا يا إبني، تفضلوا». باللهجة الدافئة، المرافقة لابتسامتها المتعبة، تفتح أم ابراهيم يديها لتستقبل زوّارها الجدد. وتدعوهم من أمام البوابة إلى مطعمها الشعبي الأنيق، القائم على حافّة الطريق المؤدي إلى بلدة وادي قنديل البحريّة، في أطراف مدينة اللاذقية. تنفضُ الطحين عن يديها، وتمسح نظارتها بمنديل أبيض، قبل أن تتوجه إلى الطاولة التي جلسنا عليها، فيما تفوح رائحة التنور المحمّص بالنار، وبجانبه صُفّت أواني الزيت والزعتر والجبنة والكشك والمحمّرة. أصنافٌ عديدة تغري المارّين بالوقوف وإلقاء نظرة، وتذوّق لقيمات عند السيدة الستّينية.
تقول أم ابراهيم «أنتم زوّاري وأبنائي ولستم زبائني. أنا أقدّم لكم الطعام كما أقدّمه لعائلتي، أخبزه بالحب وأترك لكم إطلاق الحكم على الطعم».
تفاجئنا السيدة التي لفّت رأسها بمنديل أبيض وبنّي، بشدّة حفظها للأرقام والتواريخ، فقد بلغت الثالثة والستين من عمرها، وتنتظر العاشر من شهر تشرين الأول المقبل، كي تحتفي بدخولها الرابعة والستين، كما تحفظُ عدد أيام غياب ابنها في الخدمة العسكرية الإلزامية: «صرلو ثمان سنوات وعشرة أيام»، تقول، فيما مضى على وفاة زوجها، عام وشهران.
تقول أم ابراهيم «بدأتُ مشروعي قبل عام فقط، بعد أن رحل زوجي، وبقيت وحيدة. لم أرغب في الاتكاء على أحد، أردت الاعتماد على نفسي بشكل كامل». وتضيف «طلبت من ابني خلال إحدى إجازاته أن يجهّز لي هذا التنور، وبدأت العمل وكسب رزقي بنفسي».
تتجوّل أم ابراهيم ــ التي فضّلت عدم ذكر اسمها الصريح ــ بين الطاولات، وتتفقّد أثر الطعم في وجوه الحاضرين على موائدها، لتتأكّد من جودة ما صنعته أصابعها. تقول «لا أشعرُ بالرضى إلا حين أرى الابتسامة على وجوه زوّاري، حينها أتأكّد أن الأمور على ما يرام، وأسارع إلى تقديم الشاي الخمير».
لا تتردد الحاجة في الوقوف والتبسّم لعدسة الكاميرا، وهي تحمل طبقاً من القش، توزعت عليه مناقيش الزعتر والجبنة. تُسرّ حين تعلم أن صورتها سوف تنشر في الجريدة، تضع الطبق أمام الزبائن، وتقول «كلوا يا ابني... ما بتاكل إلا الصحة».