يبرز قطاع التأمين بوصفه أحد القطاعات المتعثّرة جرّاء القرارات الحكوميّة الغريبة، غير المدروسة (في أفضل الأحوال). مُنعت شركات التأمين من تحويل رؤوس أموالها المحتجزة (لضمان حقوق المساهمين) من الليرة إلى الدولار، خلافاً للسماح الذي مُنح للقطاع المصرفي، أو لبعض الشركات الكبيرة في عامي 2012 و2013. بُرّر السماح المذكور وقتذاك بـ«حماية رؤوس الأموال في القطاعات الخاصة الرئيسية من تدهور قيمة أموالها» مع بدء الانخفاضات المتسارعة في سعر صرف الليرة. نتيجة لعدم السماح بدولرة رؤوس أموالها، انخفضت قيمة رأس مال أي شركة تأمين بشكل حاد (رأس المال الذي كان يعادل 20 مليون دولار عند التأسيس، بات يساوي 2 مليون دولار منذ سنوات). الغريب، أنّ القرارات الحكومية قد تعاملت وفق مبدأ «خيار وفقّوس»، رغم أن قطاع التأمين يشابه القطاع المصرفي لجهة الارتباطات المالية الخارجية، وفق ظروف عمل التأمين، من «إعادة التأمين الخارجية» المفروضة قانوناً، إلى طبيعة المساهمين، ومعظمهم في الأصل مستثمرون عرب، ومغتربون سوريون، وشركات خارجيّة. تُعدّ شركات التأمين عالمياً من مراكز السيولة الاقتصادية المهمة، إذ تكتنز هذه الشركات سيولات مالية ضخمة، يتم تحصيلها عبر عقود التأمين الإلزامي، أو عقود التأمين الصحي، أو العقود الاختيارية كالتأمين ضد الحريق، والسرقة (الأخيرة اختيارية لبعض القطاعات، وإجبارية لشركات الصرافة مثلاً).
تفرض القوانين على شركات التأمين إيداع السيولة التي تحصّلها، أوّلاً بأول، في المصارف المحليّة، بفوائد متواضعة لا تشابه ما كانت عليه قبل الحرب (انخفضت الفوائد من 13 و14 في المئة إلى ٧ في المئة، بحجة تشجيع الاستثمار). يُسمح لها باستثمار جزء لا يتجاوز ربع رأس المال (قد يصل استثنائياً إلى 40%)، شريطة أن يكون ذلك الاستثمار في القطاع العقاري حصراً دون سواه. ماذا يعني هذا؟ ببساطة يعني حرمان السوق من فرص استثمار تشغيلية، وتركيزه في مجال المضاربة العقارية فقط. المفارقة الأخطر في هذا الإطار، تتجلى في عملية تسليم أرباح المساهمين، إذ تتم حصراً بطريقة «التسليم باليد»، وبالليرة السورية، رغم أن المساهم قد يكون من جنسية غير سورية. لا يحتاج الأمر إلى ذكاء كبير لمعرفة نتيجة ذلك، إذ يتسلم مساهم خارجي (أو من يمثله) أرباحاً تعادل مليون دولار بالليرة السورية، ماذا سيفعل بها؟ سيشتري بها قطعاً أجنبيّاً من السوق السوداء، تمهيداً لنقلها خارج البلاد (حيث يقيم) خاصة في ظل عدم وجود مناخ استثماري يشجعه على استثمار أرباحه داخل سوريا. يشرح هذا أحد أسباب ارتفاع سعر الدولار دوريّاً كل ثلاثة أشهر (موعد تسليم الأرباح الربعيّة)، وفقاً لقانون العرض والطلب، كما يقدم تفسيراً جزئياً لارتفاع أسعار العقارات التي تمثل «سوق المضاربة» الوحيد المسموح لسيولة التأمين الاستثمار فيه (طبعاً، يظل قائماً احتمال تجيير البعض تلك السيولة للمضاربة بالقطع الأجنبي في السوق السوداء غير الشرعية). تم إطلاق «رصاصة رحمة» منذ سنة، بتحجيم حصة شركات التأمين الخاصة من «التأمين الإلزامي» من 45% من إجمالي العقود، ليصبح 20%، وحصل ذلك تحديداً في مرحلة التمهيد لإطلاق «البطاقة الذكية» التي تفرض وجود تأمين إلزامي على المركبة قبل حصول صاحبها على البطاقة. لا يقف الاقتصاديون عادةً إلى جانب شركات التأمين، باعتبارها الطرف الأقوى في العقود التأمينية.
لكن، بعيداً عن موضوع انخفاض الوعي التأميني في الشارع السوري، وعن موضوع التعويضات وأحقيتها؛ وحرص الشركات على الحدّ من تنفيذ التزاماتها بتعويض مشتركي التأمين إلى أقصى درجة ممكنة، ينبغي الاعتراف بأن كتلة سيولة نقدية ضخمة قد دُمّرت تعسّفياً، وهناك كتلة باقية تخضع لقيود بالغة التعقيد، مع تجاهل حقوق المساهم فيها. اليوم، هناك أمل لدى شركات التأمين، و«هيئة الإشراف»، بتدارك ما فات، عبر «قانون التأمين الجديد» الموعود. (بات في عهدة الفريق الاقتصادي الحكومي). وهو قانون يقع على عاتقه توفير البيئة المناسبة لدفع تلك الشركات إلى لعب جزء من دورها في ترميم الاقتصاد السوري المتردي، سواء عبر السماح برفع رأس المال، أم فتح سوق الاستثمار أمامها. فلنأمل أن يتم إصداره من دون عراقيل، أو تفريغ من مضمونه، لعلنا نكون أمام خطوة على طريق إدارة الموارد المحلية، بالطرق المثلى.