للمرة الثامنة، وربما التاسعة أو العاشرة، تشغل والدتي مسلسل «عيلة خمس نجوم» على هاتفها المحمول. تشاهده بشغف المرة الأولى، وتترقب مجرياته وأحداثه التي حفظناها في العائلة عن ظهر قلب، لكثرة ما أعادته. الحال مشابه لمسلسل «الفصول الأربعة» بجزءَيه، وكذلك مسلسلات أخرى مثل «مرايا»، و«يوميات مدير عام»، و«أبناء القهر»، و«ضيعة ضايعة»... إلخ. مسلسلات تتناوب على برنامج والدتي اليومي، ونضطرّ إلى سماعها بالضرورة، في المنزل الذي استأجرناه قبل ثلاث سنوات في دمشق القديمة، ولم نألفه بعد.رغم علمي المسبق بكل تفاصيل تلك المسلسلات، لا أخفي أنني أتابع مع والدتي ما سيجري مع فرحان، وسمر، (فارس الحلو وأمل عرفة) من مغامرات وحكايات. وفي كل مرة أكتشف أمراً يستأهل منّي أن أتابع الحلقة حتى آخرها، وأضحك ببراءة طفل شاهد رسوماً ملونة لأول مرة. «ماما شوفي بيجامة أم أحمد بلاليش، متل بيجامة جدّي الله يرحمه. ليكي الصوبيا والبواري، متل صوبيا بيتنا القديم. ماما شوفي هالصحون، لسه بقيان عنا من صحون روميو وجولييت؟». أردّد العبارات ذاتها، مع كل مرة تُعيد فيها أمي مشاهدة المسلسل. أما في «الفصول الأربعة»، فتظل عائلة نجيب (بسام كوسا) الأحبّ إلى قلبي. ربما لشبهها بكثير من العائلات السورية، التي تشتركُ بالبساطة والفقر والألفة والعفوية. مع ذلك، اعتادت عيني أن تألف طوال الوقت منزل كريم (خالد تاجا)، وأرتاح عندما يطول المشهد في المنزل ذي السقف العالي. أسترقُ النظر إلى الغرف، وأتمنى لو أنّني المخرج لأطيل اللقطة على البلاط، وأتأمل أكثر المكتبة والطاولات، وأفتح بعينيّ النوافذ الخشبية، ثم أمدّ يدي إلى أحد الأدراج، وأخرج كلّ ما فيه دفعة واحدة، ثم أنسى نفسي أسبوعاً كاملاً وأنا أرتّب «الكراكيب».
اعتقدتُ، للوهلة الأولى، أنني وعائلتي حالة خاصة، تعلّقت بمفردة من مفردات الماضي، واتكأت على مسلسل تلفزيوني لتشدّها الذاكرة إلى ذلك الوقت، فيُخدع الدماغ، ويأمر اللسان بإفراز مزيد من اللعاب، كناية عن النشوة والسعادة بطعم الماضي الحلو الجميل.
لكنني اكتشفتُ أخيراً أن كثيراً من العائلات السورية تنسابُ وراء مسلسل «الفصول الأربعة»، وتتابع إعادته على إحدى المحطات السورية، مبرمجة مواعيدها مع موعد المسلسل.
سألتُ الكثيرين عن سبب متابعتهم لهذا المسلسل تحديداً. سمعت إجابات متنوعة، يتحدث بعضها عن القصص السورية المُتداولة فيه بين حلقة وأخرى، وعن جيل نادر من الممثلين اجتمعوا في شارة واحدة. لكن معظم الإجابات تمحورت حول منزل كريم (خالد تاجا)، ونبيلة (نبيلة النابلسي). بيت العائلة الذي يلمّ شمل الأولاد والأحفاد، ويحوي الصور والذكريات، والكراسي القديمة، والطاولة الخشبية التي تتحلّق حولها العائلة، وتفوح منها رائحة اللحم مع البطاطا، والبلاطات المربعة المخططة بالأسود والأبيض، والمطبخ البسيط المليء بالصحون والكؤوس والملاعق التي تكفي أي وليمة، مهما ازداد عدد الحاضرين.
اعترفت أمي أخيراً بأنها اشتاقت إلى «البيت»، البيت الذي يفتقده معظم السوريين اليوم.