يحدث أن ينجو شخص من الحرب ليجد الخرابَ يلفّه بالكامل. وحدها أفكاره، إن استطاع النجاة بها، قد تجعل ألم الخسارات أخف وطأة، وأقل مأسوية. يمكن القول إن معن بريجاوي، كان أحد الناجين بأفكاره، بعدما أتت الحرب على كل ما جناه وبناه وعادت به إلى «ما تحت الصفر على حد تعبيره».خسر بريجاوي (مواليد يبرود ـــ 1960) ثلاثة مصانع بسبب الحرب. لكنه استطاع تخليص بعض الآلات الصغيرة التي عدّلها وطوّرها، ويقوم باستخدامها اليوم، لتصنيع المنظفات والصابون، وبعض مستحضرات التجميل البسيطة، في ورشة صغيرة ملحقة بمنزله الكائن في حيّ «بستان الدور» في دمشق. بالإضافة إلى عمله في إصلاح الآلات وصيانتها وتطويرها. في طفولته، اكتشف معن حباً كبيراً للكيمياء، فكان يدّخر مصروفه ليشتري الكتب العلمية، ويقوم بتجارب بسيطة بنفسه. يقول الرجل لـ«الأخبار» إن «الكيمياء تمتلك أسرار الخلق جميعها، ولهذا أعشقها». درس معن، هندسة «الميكانيك» ولم يحصل على شهادة فيها، إذ دخل معترك الحياة باكراً ليعيل إخوته. في التاسعة والعشرين من عمره، قرر السفر خارج البلاد، بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة آنذاك (مرحلة الثمانينيات)، وصارت إيطاليا وجهته، بمحض الصدفة.
عقب وصوله الى إيطاليا، تنقل بين عدد من المصانع الصغيرة، ثم حصل على وظيفة في شركة لإصلاح السيارات الأجنبية ضمن مجال اختصاصه (الميكانيك)، وكانت «فرصة جيدة، لكنها غير ذات جدوى مادية». بعد إتقانه اللغة الإيطالية، عمل مترجماً لبعض الشركات الخليجية، ما فتح له باب العمل فيها. هناك تعلم الكثير من أسرار الكيمياء الصناعية، وتحليل وتنقية وتشكيل المعادن الثمينة، كالذهب والنحاس وغيرهما. بعد ثلاث سنوات من اكتساب الخبرة، وشهادات الاحتراف، افتتح بريجاوي مكتباً لنقل «تقنيات التصنيع» في إيطاليا، وبدأ بالتنقل والسفر بين البلدان بوصفه خبير صيانة ومطوّراً للآلات. «أكثر ما يحزنني، بالرغم من كل خساراتي، أننا هنا نسير عكس الزمن. العالم يسير نحو التطور والنهضة بشكل مخيف، ونحن كأننا في غيبوبة»، يقول. عاد معن إلى سوريا بعدما توفر له رأس المال الكافي، والخبرة المطلوبة، وكل الدراسات والتصورات اللازمة للبدء بإنشاء مصنعه الخاص. افتتح عام 2006، مصنعاً لإعادة تدوير المعادن، وتصنيع الكابلات، في «مدينة عدرا الصناعية». بعد عامين انفصل عن شركائه، ليؤسس مصنعاً جديداً للخلائط والمعادن، وصيانة وإصلاح المعدات الصناعية، في مدينة دوما بريف دمشق. وأتبعه بمصنع في جرمانا، لتنقية الألمنيوم، وتصنيع الآلات، ووضع مخططات المصانع، بالشراكة مع عدد من الخبراء والمهندسين. وفي عام 2010 ساهم شريكاً في مصنع للمنظفات، قبل أن يخسر كل تلك المصانع في سنوات الحرب.
يأخذ معن على مؤسسات الدولة «تقصيرها الكبير باستثمار الطاقات والعناصر الأولية المتوافرة في الكيمياء الصناعية»، ويعيب على هيئات البحث والتطوير والمواصفات «تخلفها عن الثورة العلمية والتقنية والصناعية». لكنّ أكثر ما يتمنّاه اليوم هو أن «يتم تعويض الصناعيين جزئياً، أو أقلّه منحهم قروضاً من دون فائدة، كي يستطيعوا العودة إلى العمل الحقيقيّ من جديد».