«عندما رأيت طريقة الترميم، ونوع الأحجار التي يقومون باستخدامها، أصابني الذهول، وشعرت بصمامات قلبي قد توقفت عن العمل»، تقول المُدرّسة جينا القحط، ابنة صافيتا لـ«الأخبار»، في سياق حديثها عن معركة خاضها أبناء المدينة لإيقاف أعمال «ترميم» برجها الأثري. يمثّل «برج صافيتا» جزءاً من هوية «الصّفتليين». لا يتعلق الأمر بمعلَم أثريّ يتوسط المدينة، بارتفاع يقارب 40 متراً ويطلّ على معظم أرجائها وقراها فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى ما يشبه مزيجاً من القداسة الدينية، والتعلق الروحاني بالبرج، الذي يضم كنيسة «مار ميخائيل» (يسميها أبناء صافيتا: كنيسة البرج). وخلال الأسبوع الماضي، عاشت صافيتا موجة غضب شعبي عارم، مع بدء أعمال ترميم جزء من السور الخارجي للبرج، من قِبل شركة تعهدات خاصة، وفق عقد موقّع مع «دائرة الآثار» في طرطوس. لاحظ أبناء صافيتا سريعاً أن أعمال «الترميم» هي في الواقع «حفلة تشويه»، بسبب استعمال حجارة لا تتناسب مع القيمة التاريخية للسور، ولا تنسجم مع نسيجه وطريقة بنائه، أو تراعي جماليّاته.
تضمّ صافيتا حيّاً أثرياً مأهولاً بالكامل، ويحيط بالبرج الذي يعود بناؤه للقرن الثاني عشر (الأخبار)

«معركة فايسبوكية»!
سريعاً، توجه المئات من أبناء صافيتا إلى حساباتهم الشخصية على موقع «فايسبوك»، وبدأت المنشورات الناقدة لأعمال الترميم تتزايد باطّراد، مقرونة بصور تشرح حجم الكارثة. أطلق المهندس سومر الدالي، أحد أبناء المدينة، حملة عبر «الموقع الأزرق» بعنوان «معاً لوقف أعمال الترميم والتشويه للسور الأثري لبرج صافيتا»، انضم إليها سريعاً أكثر من 5 آلاف شخص. الدالي، الذي يعمل موظّف دعم فنيّ في شركة تكنولوجيا، يشرح لـ«الأخبار» دوافع التحرك الافتراضي. يقول «مع بدء أعمال الترميم لم نسمع أيّ كلام ناقد من المهندسين أو المختصّين أو أية جمعية في المدينة، التزموا الصمت. تحرك أبناء صافيتا عبر فايسبوك، كما قمت بالتواصل الشفوي مع مجلس المدينة الذي أبدى اهتماماً بالقضية». نشطت صفحة الحملة بوتيرة نشر عالية، شرح من خلالها المشاركون أبعاد القضية وتطوراتها. علاوة على منشورات تشرح أهمية «البرج»، وتعدّد الشروط التي يفرضها القانون السوري على كلّ من يود أن يقوم بأعمال ترميم أيّ مبنى أو معلم أثريّ. كذلك قام البعض بالتذكير ببنود «ميثاق فينيسيا» الخاص بـ«حفظ التراث الإنساني»، الذي يشرح وينظّم آلية عمليات ترميم المناطق الأثرية. وتضم صافيتا حياً أثرياً مأهولاً بالكامل، ويحيط بالبرج الذي يعود بناؤه للقرن الثاني عشر. ويلم سكّان الحي، نتيجة سكنهم في منطقة أثرية، بأدقّ التفاصيل المتعلقة بعمليات الترميم، والموافقات اللازمة، والآليات القانونية المُتّبعة، وهو ما لم يُراع في قضية السور، ما شكّل نقطة ارتكاز قوية لأبناء المدينة في حملتهم الإعلامية.
أمام ضغط الحملة الاحتجاجية أصدرت «وزارة الثقافة» بياناً رسمياً تضمّن «اعتذاراً»


ترميم «رخيص»!
وجدت القضية سريعاً طريقها إلى بعض الصحف والإذاعات السورية. الأمر الذي دفع «رئيس دائرة آثار طرطوس»، فواز سلمان أحمد، إلى نشر بيان عبر موقع «وزارة الثقافة»، يقدم فيه «توضيحاً لما تم نشره حول التشويه المزعوم». وقال إن «الأعمال المنفّذة مطابقة لدفتر الشروط والمواصفات الفنية للدراسة، وبإشراف جهاز الإشراف المكلف من قبل الدائرة وشعبة آثار صافيتا». كشف البيان أن «الحجارة المستخدمة في الأعمال تبرّع بها أحد سكان المدينة، بعد أن تعذّر على شعبة الآثار العثور على الحجارة المناسبة في الموقع المجاور لمكان الترميم والتدعيم»! كما أوضح البيان أن كلفة الترميم «تبلغ نحو 700 ألف ليرة سورية فقط (حوالى 1150 دولاراً)»، وكأنّما يشفع «الرّخص» للجريمة المرتكبة. سارع عدد من أهالي صافيتا إلى تفنيد البيان، بكل الوسائل المتاحة. نشر أحد الناشطين صورة تُظهر وجود كومة من أحجار السور ذاتها، إلى جانب الجزء المتهدّم منه. وكتب أحد أبناء المدينة «لم نقل إن التنفيذ غير مطابق للشروط، ولم ندّع الخبرة بالشروط. ولكن نقول إنّ الشروط كما ظهرت نتائجها غير مرضية، والأفضل بقاء الحال على ما هو عليه، أفضل مما آل إليه!»، وأضاف «يجب أن تستمرّ الحملة، وأن تولي الوزارة للترميم مبالغ مالية تليق بمكانة البرج، لا أن تبرّر «التسكيج» بفقر الحال».


إقالة وإزالة
أمام استمرار الحملة، أصدرت «وزارة الثقافة» بياناً رسمياً حمل توقيع المكتب الصحافي، تضمّن «اعتذاراً»، و«إعادة رسم صورة الوضع كما هو على حقيقته»، على خلاف ما جرى تداوله سابقاً. قال البيان إنه «بعد التدقيق في بيان مدير دائرة الآثار، والتواصل مع الجهات المختلفة، تبيّن أنّ الإجابة غير دقيقة، وفيها الكثير من المغالطات التي تظهر الإهمال وسوء التقدير والضعف الإداري». وأضاف «قامت مديرية الآثار والمتاحف بالتوجيه بإزالة الأعمال المنفذة كافة، وإعادة الأمور إلى ماكانت عليه. وإصدار قرار بإقالة رئيس دائرة آثار طرطوس». أخيراً، توقفت أعمال «الترميم»، وأُزيلت التشوهات والمخالفات. كما تم تشكيل لجنة خاصة لمتابعة القضية وحيثياتها، لمعاقبة المسؤولين عن هذا «العبث» من جهة، والبحث في أفضل طريقة لترميم السور الخارجي، خصوصاً أنه بات يشكل خطراً نتيجة التشقّقات التي ظهرت عليه.