هذه الدمية اسمها غيث، وهي ظلٌّ لروح فقدها محمد. يضمها بقوة ويلصقها بصدره، ليسدّ بها فراغاً أحدثه اليتم. يبتسم لها و«تبتسم» له. «غيث هو اسم والدي. مات بالحرب، وهاللعبة فيها حياة مثل صورة بابا يلي معلقة بذاكرتي»، يقول محمّد معرّفاً «الأخبار» بدميته. ويضيف «يمكن عم حاول ألعب ع القدر يلي حرمني من أبي. بيقولوا لنا اضحك تضحك لك الدنيا، وأنا هيك يعني عم سخّف غياب بابا وإبتسم للحياة»! يسكن محمد واحداً من خمسة عشر منزلاً في إحدى «قرى الأطفال» السورية، بـ«ضاحية قدسيا» شمالي دمشق. وتحتضن القرى (المعروفة اختصاراً بـ«SOS») الأطفال الأيتام وفاقدي الرعاية الأسرية. وفي خضم الحرب، ظلّ مصير كثير من الأيتام في الدور الحكومية التي خرجت عن سيطرة الدولة السورية مجهولاً، بلا إحصاءات دقيقة عن أعدادهم ومآلاتهم. بيد أن «SOS» استطاعت احتضان عدد منهم. يبلغ عدد أطفال تلك «القرى» في دمشق 239 طفلاً موزّعين على قريتين، الأولى في ضاحية قدسيا، والثانية في الصبورة. ومن بينهم 75 شاباً وشابة بلغوا سن الرشد، فنُقلوا إلى دور خاصة بهم.«سوريا أعاملها كأمي»، عبارة دونها محمد بجانب سيف دمشقي قام برسمه. يقول: «الوطن بيلم متل الأم... لهيك أنا بعامل سوريا متل أمي». ويضيف: «التفكير بفقدان بابا وماما مؤلم. أنا وكل الأولاد هون بالقرى عم نعيش هالشعور يومياً». يصمت لحظات، ويقول: «بس أكبر بدي صير مربي، وأول شي بدي علّمو للأولاد الأدب والاحترام».

أمّهات بديلات
تبني «الأم البديلة» في قرى «SOS» علاقة وثيقة مع كل طفل تتولى العناية به. تعيش مع الأطفال لتشرف على شؤونهم، وتدير منزلها باستقلال تام، وتحترم الخلفية الأسرية لكل طفل، وجذوره الثقافية والاجتماعية والدينية. حُرمت عبير (اسم مستعار) الإنجاب، فاختارت تربية الأطفال في «SOS» بعد انفصالها عن زوجها. تقول السيدة التي انتصف عقدها الرابع «من 12سنة وأنا أم لعشرات من أطفالي الروحيين. كل طفل هو كتاب كلّما قرأته أكثر فهمته أكثر». وتضيف: «أهم شغلة ليحس الولد أنك فعلاً أمه أن تسمعيه، لأن بيكونوا مخزنين كتير بقلوبن. فقدان الأم أصعب من أي شي تاني. الله يعين هالولاد ويعيننا».

«بابا فين؟»
لم يتجاوز رؤوف عامه الرّابع، يكتفي بتوزيع الضحكات ولا يقترب من أحد. يمسك رؤوف لعبةً على شكل هاتف خلوي تنبعث منه أغنية «بابا فين؟». وتطرح الجملة سؤالاً قد لا يحظى بإجابة أبداً. تقول «مديرة التواصل» في قرى «SOS»، لورا قات، لـ«الأخبار» إن «كل طفل يحتاج عائلة تمنحه الأمان والمحبة وفرصة عيش لحظات الطفولة السعيدة. ونحن نعمل في القرى على توفير الجو الأسري لهم». وتضيف: «ثمة أطفال آباؤهم على قيد الحياة، لكنهم لا يستطيعون ضمّهم أو شمّهم. هؤلاء يعيشون يتماً من نوع آخر. نحن نعمل على لمّ شملهم، وقد استطعنا لمّ شمل عشرات الحالات».

«بيّاع الورد»
في حيّ «الشعلان» البعيد عن «قرى الأطفال» يفترش إبراهيم الرّصيف. يتّمت الحرب ابن العاشرة قبل أكثر من عام. يبيع الطفل الورد، واهباً طفولته لأمه وأخته الصغيرة. «بروح الصبح عالمدرسة، وبعد الظهر بجي على رزقي، إذا ما اشتغلت ما مناكل أنا وأمي وأختي»، يقول الطفل. ويضيف: «الأب سند ما بعدو سند. صرلو أبي متوفي سنة وشهرين، ومن وقتها أنا بشتغل لنعيش. بحياتي ما فكرت إني بيوم من الأيام كون بدل أبي وأصرف ع البيت». يصمت لحظات، ثم يقول وعيناه البنيّتان دامعتان: «لا تصوريني. صوري هالورد لأنو متلي. صحيح بيذبل، بس بيرجع يزهر لأن بدو يعيش».