قبل عامين تمحور الاهتمام الحكومي حول تشجيع سكان حلب النازحين على «العودة إلى بيوتهم وأحيائهم المحرّرة». يومذاك، كانت الأهداف الإعلامية والسياسية تطغى على كلّ ما سواها، بما في ذلك معاينة وضع الأحياء، وتحديد ما يصلح منها للسكن، أو ما يجب منع العودة إليه «حرصاً على سلامة السكان». اليوم، تغيرت المعطيات مع تتالي انهدام المباني، وخسارة الضحايا. وفيما تسارعت الإجراءات لإخلاء المباني المهددة، لم تلاحظ أي مؤشرات على نوايا لتحديد مسؤوليات الإهمال السابق، ومحاسبة المسؤولين عنه، بل إنّ الحديث عن «محاسبة» يبدو ترفاً في بلدٍ اعتاد تحول أبنائه إلى ضحايا وأرقام منذ سنوات.«يا ريتني رجعت وما لقيت هالبيت، والله العظيم لو انهدم كان أريح لي»، يقول أبو عمر، قبل أن يضيف: «والله ما بعرف أضحك أو أبكي؟». قد يبدو كلام الأربعيني الحلبي غير قابل للتصديق، لكن سرد أسبابه سيكون كفيلاً بتبديد الشكوك في صدقه. كان الرجل أحد أوائل النازحين من حي السكّري، إبّان سيطرة المجموعات المسلّحة عليه قبل أكثر من ست سنوات. تنقّل بعائلته بين بدائل عدّة، في أحياء حلب الغربيّة أول الأمر، ثم في حماة، قبل أن يستقر به المقام في اللاذقية عام 2014. يستفيض الرجل في شرح المشاقّ التي عانتها العائلة حتى أعادت ترتيب حياتها، ما بين الاستقرار في شاليه مستأجر، ثم استدراك وضع مدارس الأولاد، ثم ترتيب أمور عملٍ له. مع نهاية العام 2016 تغيّر كل شيء، «كنت بالشغل. اتصلت فيني مرتي وقالت لي تحررت حلب، ما صدقت، تاني يوم الصبح سافرت لأشوف وضع البيت». مع بداية العطلة الصيفية عادت العائلة إلى حلب. لم يكن اتخاذ القرار سهلاً، لكن الأمر حُسم لمصلحة العودة إلى الحي المتهالك. «في شقق بالبناية مهدّمة، بس شقتنا كان ماشي حالها، عملت تصليحات خفيفة ورجعنا، قلنا أرحم من الغربة والأجارات». مجدّداً كان على العائلة ترتيب أمور حياتها، لكنّها اليوم تستعد للمغادرة مرة أخرى، فالمبنى واحدٌ من المباني الخطرة الواجب إخلاؤها. يؤكد الرجل أنّ أحداً لم يحذّره من خطورة العودة، «وأنا شفت الحيطان والسقف واقفين، وقلت الحمد لله. هلأ صار لازم نخلي، ونرجع نبدا من الصفر، وكمان الحمد لله». عائلة أبو عمر ليست سوى نموذج عن مئات العائلات الحلبية التي عاشت ظروفاً مماثلة. وفيما كان التوجه الحكومي العام قبل سنتين حريصاً على عودة العائلات لأسباب إعلاميّة وسياسيّة، بات اليوم منصبّاً، بقوّة الأمر الواقع، على إخلاء تلك العائلات من بيوتها حرصاً على سلامتها. لا خلاف على صوابية الخطوة، باستثناء كونها جاءت متأخرة عامين، انهدمت فيهما مبانٍ، بعضها على ساكنيها، وبعضها فارغ!

«سلامة عامّة» نصف كم!
بعد عودة كامل المدينة إلى سيطرة الدولة السورية، شكّل المحافظ «لجان سلامة عامة» لجميع المناطق العقارية في حلب. ضمّت كل لجنة مهندسين متطوّعَين اثنين ومهندساً موظّفاً في القطاع الذي تتبع له المنطقة العقارية بوصفه «مقرّراً» للّجنة. لم يتقاض أعضاء اللجان أي بدل مادي، ولم يخصّصوا بتسهيلات لوجستية (وسائل نقل مثلاً) أو مكاتب أو أجهزة حاسوب. بمعنى آخر، أخذ العمل شكل «الفزعة». كان من بين المهندسين مسنّون، وكل مناطق العمل في الأحياء الشرقيّة هي مناطق خطرة (أنقاض، ومخلّفات حرب).
التقدير الأوليّ يشير إلى وجود عشرة آلاف مبنى «عالي الخطورة»!

اختلف الأداء ما بين لجنة وأخرى، ثمّة لجان عملت بتفانٍ وأنجزت تقارير سلامة دقيقة بأعداد كبيرة، وأخرى عملت في الحدّ الأدنى وفق المتاح من إمكانيات ووقت، وثالثة اشتغلت صوريّاً فحسب. سُلمت التقارير إلى المحافظة، كان هناك قرار بعدم إخلاء الموجودين من السكّان، أو منع عودة النازحين إلى بيوتهم. لم تؤخذ «السلامة العامّة» على محمل الجد، وتُرك الأمر للسكّان الذين فضّل جزء كبير منهم العودة والسكن في ظروف مأسوية، هرباً من الإيجارات التي استنزفته. واقتصرت الإجراءات الحكوميّة على إزالة بعض الأنقاض وفتح الطرق والشوارع، فلم تُهدم المباني الآيلة للسقوط مثلاً، ولم يتمّ تدعيم المباني المهدّدة. الأنكى، هو الإهمال الذي طاول ملف تصريف المياه التي ما فتئت تتجمّع أكثر فأكثر، بفعل أضرار كبيرة في التمديدات، ومشكلات هائلة في التصريف. تفاءل بعض السكّان بأنّ الجمعيات المحليّة والمنظمات الدولية لا بدّ أن تساعد في أعمال التصليح والترميم، لكنّ شيئاً من ذلك لم يحدث. وتؤكد مصادر من «المجتمع المدني» لـ«الأخبار» أنّ «محاولات كثيرة بُذلت لدخول المنظمات على هذا الخط، لكنها اصطدمت بإجابات رسميّة مفادها أنّ القوانين لا تسمح بأكثر من أعمال إكسائية بسيطة (خشب، ألمنيوم، حديد، أبواب ونوافذ.. إلخ)».

أن تصل متأخراً...
دُقّ ناقوس الخطر أخيراً مع انهيار مبنى في حي صلاح الدين، مخلّفاً أحد عشر ضحية، في حادثة لم تكن الأولى من نوعها. يُبدي مجلسا المحافظة والمدينة اهتماماً كبيراً بتدارك الوضع قبل وقوع حوادث أخرى، وهما بالمناسبة مجلسان حديثان انتُخب أعضاؤهما قبل ثلاثة أشهر. وشهدت حلب في الأسبوع الأخير «استنفاراً» متأخراً، أسفر عن تشكيل لجان جديدة موزّعة على المناطق العقارية ومرتبطة بلجنة مركزيّة في «محافظة حلب». وتضم اللجان ضبّاط أمن وشرطة وقضاة نيابة ورؤساء قطاعات وأعضاء في مجلس المدينة وفي لجان السلامة العامّة. وتقع على عاتق اللجان مهمة إخلاء جميع المنازل المهدّدة. لا أرقام دقيقة بعد، لكن التقدير الأوليّ يشير إلى وجود عشرة آلاف مبنى «عالي الخطورة»! ما يستوجب إخلاء عائلات يراوح عددها بين أربع وخمس آلاف! يوضح «رئيس مجلس مدينة حلب» معد مدلجي أنّ عمليات الإخلاء «لن تستند إلى تقارير السلامة السابقة فحسب»، ويقول لـ«الأخبار» إنّ «لجان التوصيف المشكّلة أخيراً تعمل على تقارير جديدة، المناطق المتضررة كثيرة، وقد مرّ عليها شتاءان قاسيان، مع ما يعنيه ذلك من زيادة الضرر (بفعل الأمطار والرياح)». يشدد مدلجي على أنّ «الإخلاء مترافقٌ مع الإيواء»، ويقول: «القرار اتّخذ، توفير مساكن إيواء لمن يرغب من العائلات الواجب إخلاؤها». تقع المساكن المختارة في حي «مساكن هنانو»، وهي بيوت عائدة لجمعيات سكنية كان يفترض تسليمها لأصحابها قبل سنوات، قبل أن تتغير المعطيات مع وصول الحرب إلى حلب. تشمل الإجراءات الطارئة 36 حيّاً من أصل 119 هي أحياء حلب، بوشرت إجراءات الإخلاء يوم أمس (الخميس). ويؤكد «عضو المكتب التنفيذي لمجلس المدينة» إلياس صقّال وجود نوايا «لإنجاز العمل في غضون أسبوعين. وطبعاً الأمر يحتاج إلى تجاوب من المواطنين، لأنّه يسهل عملنا. نحن نعلم تماماً أن خروج المواطن من بيته ليس أمراً سهلاً، لكن مقتضيات السلامة تُحتّم التشدّد في تنفيذ الإخلاءات». يرأس صقّال لجنة قطاع السليمانية، ويوضح أنّه «أقل تضرّراً من غيره بكثير. عدد تقارير السلامة العامة المنفّذة سابقاً في قطاعنا 92، لكنها تعود للعام 2017، وقد باشرنا إعادة النظر في تلك التقارير تبعاً لمعطيات أرض الواقع».

ماذا بعد؟
لا خطط واضحة لما بعد تنفيذ الإخلاءات، أو على الأقل لا رغبة لدى أحد بالكشف عنها. وتشير بعض المعطيات إلى وجود توجّه نحو إزالة مباني المخالفات والعشوائيات المتضررة على وجه الخصوص (وجميعها على الأرجح). لا يقدّم «رئيس مجلس المدينة» إجابات قاطعة. يقول: «هناك منازل قد تكون قابلة للترميم، وأخرى واجبة الإزالة. الوضع غير واضح، هناك مناطق مخالفات، هناك تعديّات»، ويضيف: «لكننا لن نتخلى عن أحد حتماً». نسأل عن توافر الإمكانات لترميم ما يمكن ترميمه من بيوت، فيجيب: «هذا ملف ضخم جداً، نحن نتحدث عن عشرات (الأصح مئات) آلاف المباني على مستوى الجمهورية، ولا بدّ من قرار مركزي للبتّ في أمرها».