استبقْتُ العاصفة الثلجية التي اجتاحت كل المدن السورية، بما فيها دمشق، قبل أسبوعين، واقترحت على والدي تعبئة الدفعة الثانية من مخصصاتنا من «المازوت المدعوم» من باب الحيطة، لكن مكتب الخدمة أجاب بأن «أمر صرف الدفعات ليس جاهزاً بعد». وقياساً بدرجات الحرارة غير المعتادة التي يسجلها هذا الشتاء، فإن الكمية المخصصة لكل عائلة (400 ليتر سنوياً بسعر 183 ليرة سورية لكل ليتر، وفق نظام البطاقة الذكية الذي بدأ العمل به العام الفائت) لا تعدّ كافية على الإطلاق، غير أن «الرمد أفضل من العمى» كما يقال.مع تعذّر الحصول على الكمية «المدعومة»، لم يكن أمامنا سوى محاولة تأمين بعض المازوت قبل بدء موجة البرد، وبالفعل استطعنا توفير 400 ليتر، لكن بسعر 350 ليرة لليتر الواحد! وطبعاً من «السوق السوداء». للأمانة، لم تكن العملية بصعوبة الحصول على المادة بالطريقة «الذكية». لا شيء يدعو إلى الدهشة، فكل المواد التي يتعذّر الحصول عليها بالطرق البديهية والعادية ستجد سبيلاً إليها بـ«أبسط الوسائل» حتى إنك قد تهتدي إلى «بيّاع غاز» أو «صرّاف عملات أجنبية» في مجموعةٍ ما على مواقع التواصل الاجتماعي، ويمكنك شراء ما تشاء، وبالكمية التي تشاء، لكن حكماً بسعر مضاعف.
إن منطق الأشياء المعكوسة هذا يربكنا بالتساؤلات المحيّرة. على سبيل المثال، من أين يأتي تجّار السوق السوداء بكل تلك المواد، بينما ترهق الحكومة نفسها في تبرير صعوبة وصولها إليها؟! ولماذا يتكلّف المسؤولون عناء البحث عن الأعذار عوضاً عن لجم هذه الفوضى «اللا أخلاقية» المستشرية في كل مكان؟ كيف تغرق الأسواق بالبضائع الممنوع استيرادها والمعروفة المصدر؟ ثم كيف تصل إلينا المعاطف ذات الأثمان الباهظة والشوكولا السويسرية والهواتف الأميركية ومساحيق التجميل والعطور الباريسية وتفشل شحنات الحليب والغاز؟
«لم نعد نريد منهم شيئاً، لا كهرباء ولا مازوت ولا غاز ولا غيره! نحن مرهقون ومتعبون من كل شيء، حتى منهم». هذا بعضٌ مما تفوّه به رجل خمسينيّ قضى قرابة سبع ساعات في انتظار دوره للحصول على أسطوانة غازٍ وعاد من دونها!
هل يدرك «ولاة الأمر» أن منطق «التطبيل والتزمير» الذي يدعون إليه، ويرغبون في سماعه، لم يعد ممكناً وسط هذا الكمّ من الذلَ اليوميّ الذي يقاسيه الناس ويدفعهم إلى «الوقوع فريسة الفتن التي تثار عبر استغلال الصعوبات التي يفرضها منطق الحرب»، بحسب رأي أحد المسؤولين؟
طيب، إذا كان من اليسير تأمين كل ما يحتاج إليه المواطن من «السوق الموازي»، فلمَ لا يوفّر عليه المسؤولون مشقّة الوقت والبحث والوقوع تحت رحمة «السماسرة»؟، ويعتمدون منطق السوق السوداء حلّاً بديلاً يرفد خزينة الدولة بتلك الأموال التي يسرقها التجار واللصوص من جيوب المواطنين؟ بذلك يقطعون الطريق على محاولات «زرع بذور الفتنة» ونشرها «عبر الفايسبوك ومشتقات التواصل الاجتماعي التي تدار من الخارج»، بحسب رأي المسؤول نفسه! أقلّب هذه الفكرة في رأسي، قبل أن يستيقظ «المواطن الصالح» فيّ ويصرخ في وجهي «بدّك الحكومة تشتغل بالسوق السودا يا عميلة؟». أنتفض، أرتبك، أشعر بالخجل من نفسي الأمّارة بالسوق... عفواً.. بالسّوء، أصرخ: حاشا وكلّا! وأشرع بالهتاف «تعيش حياتنا السودا... تسقط مشتقات التواصل الاجتماعي... تسقط الإمبرياليّة والاستعمار والمؤامرات»... ويسقط المطر.