«الأفضل هو ما يُجنّب أطفالي نيران الحرب»، بهذه الجملة يمكن إيجاز حديث طويل مع أم أحمد، إحدى ساكنات مدينة إدلب. وعبر محادثة عبر أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي، تستفيضُ السيدة الثلاثينيّة في شرح مخاوفها لـ«الأخبار». تؤكّد أنّها «لا تعرفُ شيئاً ممّا ينتظر المدنيين، ولا تفهمُ شيئاً ممّا يدور حاليّاً». لدى أم أحمد خمسة أبناء، الأكبر طفلة في الثالثة عشرة من عمرها، والأصغر طفلٌ في الرابعة. زوجها يكبرها بأربعة عشر عاماً، ويُدير مخبزاً صغيراً لصناعة المعجّنات. «أمورنا مستورة الحمد لله، بس ما في أمان، من سنين ما حسّينا بالأمان، ولا منعرف إذا رح نرجع نحس». تجهد السيدة لإيصال فكرتها القائمة على أنّ موقفها ورأيها في ما قد تشهده إدلب «لا قيمة لهما»، وتضيف «الله يتلطّف فينا، هاد أحسن شي». ليست أم أحمد سوى نموذج يمثّل شريحة واسعة من مدنيي إدلب. شريحة باتت ترى نفسها منذ سنوات عاجزةً عن التأثير في مسارات الحدث، وتحوّل أفرادها إلى «جزء من الملعب» فحسب، وخسروا حتى ترف أن يكونوا «متفرّجين».
«الاصطفافات» ما زالت حاضرة
لا إحصائيّات دقيقة لأعداد المدنيين في محافظة إدلب. ثمة تقديرات متباينة، يؤكد بعضُها أنّ العدد لا يقل عن مليوني مدني، ويرفع بعضُها العدد إلى مليونين ونصف مليون «نصفهم وفدوا إلى المحافظة من مناطق أخرى». بطبيعة الحال لا ينسحب حال أم أحمد ونظرائها على الجميع. وتعكس الآراء التي استطلعتها «الأخبار» تضارباً في المواقف من المعركة المُتوقّعة. عبد القادر، أحد أبناء أريحا، يرفض الخوض في أي حديث معنا، لأنّنا «صحيفة معادية للثورة». أمّا محمّد فيُبدي استعداداً لـ«القتال حتى الموت» إذا وصلت المعركة إلى مدينة إدلب التي يقيم فيها. يقول الرجل الأربعيني «إذا رجع النظام ما رح نشوف الخير. صح ما عم نشوفو هلأ، بس معليش أنا مبسوط». يؤكد محمد أنّه «لم يحمل سلاحاً ولم يحارب مع أي فصيل»، لكنّه «مستعدّ لفعل ذلك إذا استدعى الأمر»، رغم يقينه بأنّ «الفصائل فاسدة، ومعظمها عبارة عن عصابات»! يقول إنّه «على امتداد السنوات الماضية فقد واحداً وعشرين فرداً من أقاربه جميعهم مدنيون، ومن بينهم نساء وأطفال»، وجميعهم «استُشهد بسبب قصف النظام وحلفائه». ويرى في ذلك «سبباً كافياً لرفض عودته». رغم كل ذلك، لا يبدي محمد «تفاؤلاً» بعدم حدوث ذلك. يقول: «ما في حدا يمنعو».
يُرسل أبو مُعاذ صورة لإحدى غرف منزله وفي صدرها العلم السوري الرسمي


يُرسل أبو مُعاذ صورة لإحدى غرف منزله وفي صدرها العلم السوري الرسمي. يقول الرجل الخمسيني «قسماً بالله ما انشال من مكانو من الـ2011 وإن شاء الله ما رح ينشال». يؤكد أنّه يستعد منذ انتهت معركة الغوطة لاستقبال الجيش السوري. يقول «كنت متمني يجي دورنا قبل درعا، بس معليش، اللي صبر كل هالسنين بيصبر كم شهر». يأمل أن «تنجح السياسة في حسم الأمر ويدخل الجيش إلى بلداتنا بلا قتال، حفاظاً على أرواح العساكر وأرواح السكّان»، لكنّه يؤكد في الوقت نفسه أنّ «المهم أن يتم الأمر في نهاية المطاف، ومهما كان الثمن». يبلغ عدد أفراد أسرة أبو معاذ تسعة، يقيم هو وزوجته وبناته الثلاث وأحد أبنائه الشبان في إحدى قرى إدلب، فيما يقيم اثنان من أبنائه الشبّان في حلب مع أسرتيهما، وثالثٌ يؤدي الخدمة الإلزامية، «التحق من 3 سنين، تخرّج في الجامعة وراح سلّم حالو فوراً، أولادنا ما بيهربوا من واجبهم».

«على أحرّ من الجمر»
هربت منال (اسم مستعار) وعائلتها من مدينة جسر الشغور قبل أربعة أعوام. تقول السيدة التي كانت تعمل مدرّسةً في إحدى مدارس المدينة إنّهم كانوا «من المحظوظين الذين غادروا قبل أن تقع الجسر (اسم مختصر يُطلقه السكان على جسر الشغور) تحت احتلال إرهابيين جاؤوا من هنا وهناك». تقيم السيدة منذ سنوات في محافظة اللاذقية، وتقول لـ«الأخبار» إنّها تنتظر «تحرير الجسر وكل إدلب على أحرّ من الجمر. أنهيت الاستعدادات قبل أسبوعين. حزمت كل الحقائب، ونحن ننتظر العيد الحقيقي الذي سيهديه إلينا الجيش». تُقرّ منال بأنّها تخاف على أقاربها الموزّعين على بعض مناطق إدلب من نيران المعارك. «ما بقي حدا منهم بالجسر من زمان. إخوتي وأمي وأهل زوجي، تفرّقوا بين عدد من المناطق. الله يحميهم ويجمعني فيهم عن قريب».

«أجراس العودة»؟
في الشهر الماضي غادرت أم علي بلدة كفريا، لتكون في عداد أواخر أبناء البلدة المغادرين مع أبناء الفوعة. «من يومها ما نشفوا دموعي» تقول لـ«الأخبار». تؤكد السيدة أنّ مغادرة البلدة كانت أسوأ ما حصل منذ بدء الحرب. «مو كانوا يهجموا علينا ويرموا قذائف وصواريخ، ويهددونا كل يوم؟ كلو كان أهون من التهجير». بالنسبة إليها ستكون «فرحة التحرير مضاعفة، لأنها تعني هزيمة الإرهاب، وعودتنا إلى بيوتنا التي احتلوها بعد أن تمّ تهجيرنا». تضيف السيدة «طبعاً مو بس أنا، كلنا عم نستنى الرجعة، ورح نرجع إن شاء الله». وكانت البلدتان الواقعتان في ريف إدلب الشمالي قد أُخليتا نهائيّاً من السكان في تموز الماضي، بموجب اتفاق لم تُكشف كلّ تفاصيله. وقُدّر عدد الأفراد الذين تم إخلاؤهم في المراحل الأخيرة بسبعة آلاف، فيما كان عدد سكان البلدتين يُقدّر قبل اندلاع الأزمة في البلاد بنحو خمسين ألفاً.