في نهاية الحرب الإمبريالية الثانية (بين عامَي 1939و1945)، اجتمعت الدول المنتصرة (قوى «الحلفاء») في بريتون وودز في الولايات المتحدة لإنشاء هيكل جديد كلياً للحوكمة العالمية. فأنشئت ثلاث هيئات دولية رئيسية: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي والاتفاقية العامة للتعرفات الجمركية والتجارة (GATT). كان دور أول هيئتين متعلق بمسائل التمويل والتنمية، بينما تعاملت الـ«GATT» مع الأنظمة والاتفاقيات التجارية. وفي عام 1995، استبدلت اتفاقية الـ«GATT» بمنظمة التجارة العالمية.يجب تفسير عدم اهتمام الغرب بموضوع التنمية غير الغربية من خلال نظرة تاريخية سريعة. فبحلول نهاية القرن الثامن عشر، كانت بريطانيا هي الدولة الصناعية المهيمنة. وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، انضم إليها آخرون، هم: معظم ما يُعرف الآن باسم أوروبا الغربية، الولايات المتحدة واليابان. في المقابل، تراجعت الإمبراطوريات السابقة للبرتغال وإسبانيا. وكانت الإمبراطورية الهولندية أيضاً في تراجع، لكنها تمكنت من إحياء نفسها في أعقاب الرأسمالية الصناعية. الإمبراطوريات الأخرى المتدهورة كانت تتمثّل بالإمبراطوريتين العثمانية والروسية. كانت روسيا على شفا فترة ما قبل الثورة. أما بقية العالم فلم يكن في الحسبان، وكانت هذه الدول ما بين دول مستعمرة بالفعل (مثل الهند)، أو مستعمرة جزئياً (مثل الصين)، أو تحت الاستعمار الحديث (مثل البرازيل)، أو على وشك الاستعمار (مثل أفريقيا وبقايا الإمبراطورية العثمانية).


هل يمكن اعتبار هذا الخطاب مبسّط؟ بالطبع هو كذلك. لكن جوهر الأمر يكمن في بساطته. فبحلول مطلع القرن التاسع عشر، وبينما كانت روسيا في حالة فوضى، وكانت أميركا منشغلة في استعمار أراضيها النائية (مثل المكسيك) والمستعمرات الإسبانية السابقة (مثل كوبا) وأميركا الجنوبية، التقى الأوروبيون في برلين في عام 1884، ورسموا خريطة لأفريقيا على الطاولة، وقسّموا بشكل منهجي أفريقيا جنوب الصحراء في ما بينهم. كانت هناك بعض الدول «المستقلّة». ليبيريا كانت واحدة منها، لكن كانت فعلياً «مستعمرة» أميركية. لاحقاً جرى «احتلال» جنوب أفريقيا وإثيوبيا؛ الأولى من قبل البريطانيين، والثانية من قبل إيطاليا. لذا، فإنه من نهاية القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب الإمبريالية الثانية، كان «العالم» يتألف من «الغرب» و«باقي العالم». كان الغرب يحكم، أما الباقي فلا يهم.
الإمبراطوريات الاستعمارية والمالية، كما مارستها أوروبا وأميركا في القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت مصمّمة لإفادة شعوبها، وليس الشعوب المستعمَرة. أُجبرت الشعوب المستَعمرة، من خلال الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية، على إنتاج المواد الخام والمواد الغذائية والمعادن التي كانت تحوّل إلى منتجات نهائيّة في الإمبراطوريات. لكن بعد عام 1945 تغيرت الأمور. فقد ثارت الشعوب المستعمَرة ضد النظام الإمبراطوري. وطالبت الولايات المتحدة، الدول الإمبريالية الأوروبية، بفتح مستعمراتها أمام التجارة والاستثمارات الأميركية. وفي ظل هذا الهجوم المزدوج، اضطرت أوروبا إلى «منح» المستعمرات، استقلالها السياسي. ومع ذلك، تم تجديد الأنظمة القديمة للضوابط المالية والتجارية المباشرة، إلى أشكال جديدة لخدمة نفس الأهداف الإمبراطورية. توضح هذه القصة كيف حافظ الأوروبيون والأميركيون على هيمنتهم على التجارة والإنتاج في المستعمرات القديمة في الجنوب. لكن، تغيّرت الظروف في العالم مجدداً بعد عام 1989 مع انهيار الاتحاد السوفياتي. وقرّرت البلدان المتقدّمة أن لديها احتياجات مختلفة، وغيّرت مطالبها مرة أخرى من خلال سلسلة من معاهدات التجارة الدولية، منها منظمة التجارة العالميّة.
الركيزة الأولى التي تقوم عليها منظمة التجارة العالمية هي حريّة التجارة. فعلى مدى الثلاثين عاماً الماضية، سُلّط الضوء على تحرير التجارة باعتبارها «محرّك النموّ» من خلال «إجماع واشنطن». وتحرير التجارة هو أحد المبادئ الرئيسية للإيديولوجيا الاقتصادية النيوليبرالية المهيمنة في عصرنا. الحقيقة الغريبة عن هذه الإيديولوجيا هي أنها، للمفارقة، بمثابة تجريد كامل من الواقع. كان مبدؤها الأساسي، المتمثل في الأسواق الحرة، قد بلغ ذروته عندما حكمت إنكلترا البحار في القرن التاسع عشر. لكن بمجرد أن أصبحت الولايات المتحدة مستعدة للتحوّل إلى الصناعة في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، تهدّدت إيديولوجيا السوق الحرّة. ومع دخولها في مرحلة التحوّل الصناعي بشكل كامل، وضعت الولايات المتحدة حواجز حمائية ضد «التجارة الحرّة».
بعد سبعينيات القرن التاسع عشر، حذت ألمانيا وفرنسا واليابان وسويسرا وكل الدول الأوروبية الأخرى على طريق التحوّل الصناعي، على خطى الولايات المتحدة. اليوم، قام الاقتصاديون النيوليبراليون بإعادة إحياء «التجارة الحرّة» باعتبارها شعاراً للتنمية، وكوسيلة لمعارضة النظريات الاقتصادية المنافسة (مثل الاقتصاد الكينزي) ومنع كل تدخل من الدولة في الاقتصاد. لكن المفارقة هي أن نظرية «السوق الحرّة» تنطبق فقط على بلدان الجنوب. يجب على صانعي السياسات والمنظّرين الأكاديميين ألا يأخذوا هذه الإيديولوجيا على محمل الجد. لقد شاركتُ في المفاوضات التجارية لنحو ثلاثين عاماً، ويمكنني أن أعطي أمثلة كثيرة لإظهار أنه رغم خطابهم، فإن بلدان الشمال تستخدم الإجراءات الحمائية والإعانات الحكومية وجميع إجراءات الاقتصادات «المغلقة». ليست الحكومات الشمالية وحدها التي تضمن بقاء اقتصاداتها مغلقة، بل أيضاً الشركات الشمالية الاحتكارية تفعل ذلك. تم الكشف عن الأساس الفارغ لإيديولوجيا «السوق الحرّة» هذه بشكل كبير في الانهيار المالي لاقتصاد الكازينو منذ 2007-2008.
أما الركيزة الثانية، أي الإلزام، فهي بحاجة إلى مراجعة نقدية. تستند هذه الركيزة إلى فرضية أن النصوص التي تم التفاوض عليها، بشأن منظمة التجارة العالمية، ملزمة، وبالتالي لا يمكن لأي دولة أن تتجاهل منظمة التجارة العالمية. في لغة القانون الدولي، هذا صحيح من الناحية التقنية. قد تكون منظمة التجارة العالمية هي المنظمة الوحيدة (إلى جانب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة) القادرة على تطبيق الأحكام على أرض الواقع. ويمكن لهيكلها أن يشرّع عقوبات أي طرف متضرّر ضدّ أي طرف جانٍ. لكن لماذا أُعطيت منظمة التجارة العالمية هذه الأدوات في المقام الأول، في حين أن سابقتها، الـ«GATT»، لم يكن لديها أي أدوات؟ هو سؤال لا يمكن فهمه إلا بالقليل من المعرفة حول كيفية إنشاء منظمة التجارة العالمية.
من أين تأتي فكرة أن «النصوص المتفاوض عليها لمنظمة التجارة العالمية ملزمة»؟ ماذا يعني «الالتزام القانوني» بموجب منظمة التجارة العالمية؟ الخفوضات الجمركية، على سبيل المثال، هي تبادلات يتم التساوم عليها بموجب قاعدة المعاملة بالمثل. ومع ذلك فإن مبدأ «الدول الأولى بالرعاية» يتناقض مع المعاملة بالمثل المساوم عليها. لنوضح أكثر، إن «الدول الأولى بالرعاية» هو مبدأ عدم التمييز بين الشركاء التجاريين. وينصّ على أن أي ميزة أو امتياز أو حصانة تجارية تمنحها دولة إلى أخرى يجب أن تُمنح بشروط مماثلة لجميع شركائها التجاريين. ثمة مثال بسيط على ذلك: إذا سمحت أوغندا للصين بالوصول إلى السوق الحرّة للملابس، فعليها أن تقدم نفس البدل لبريطانيا. ولكن بعد ذلك، كيف يتوافق هذا مع مبدأ أن جميع الصفقات التجارية هي تبادلات يتم التفاوض عليها بشكل متبادل؟ هذه قضية مهمة. فعلى سبيل المثال، في مفاوضات أفريقيا مع الاتحاد الأوروبي، يصرّ الاتحاد الأوروبي على أنّ أي صفقة تعقدها أفريقيا، مع الصين مثلاً، يجب أن تمتدّ لتشمل الاتحاد الأوروبي أيضاً بموجب مبدأ «الدول الأولى بالرعاية». لكن لماذا يجب على أفريقيا، بعد مساومة صعبة مع الصين التي يفترض أنها حصلت على شيء في المقابل، أن تمنح نفس الشروط إلى أوروبا؟ ببساطة لا معنى لذلك. يعدّ مبدأ «الدول الأولى بالرعاية» من أكثر المبادئ عبثية في نظام التجارة العالمي.
من المهم الدخول في تاريخ الموضوع. ولهذا من الضروري الذهاب إلى الترتيبات التي تم إجراؤها قبل ظهور منظمة التجارة العالمية. فمنظمة التجارة العالمية هي بقايا المحاولة الفاشلة لإنشاء منظمة التجارة الدولية أثناء مفاوضات «بريتون وودز» بعد الحرب العالمية الثانية. ركّز اقتراح منظمة التجارة الدولية على سبل علاج الانتهاكات من خلال دفع التعويضات مقابل الانتهاكات، بدلاً من وضع العقوبات. كانت آلية التنفيذ المقترحة من منظمة التجارة الدوليّة عبارة عن إجراء من ثلاث خطوات: يتم التحقيق في الشكاوى والبتّ فيها من قبل المجلس التنفيذي؛ يمكن استئناف قرارات المجلس أمام المؤتمر المؤلف من جميع الأعضاء؛ ثم الاستئناف النهائي يقع على عاتق محكمة العدل الدولية، لكن فقط «إذا وافق المؤتمر». عارضت فرنسا منح منظمة التجارة الدولية سلطة العقوبات؛ إذ كانوا قلقين من أن منظمة التجارة الدولية قد تتأثّر سياسياً بقوة إمبراطوريات الدولار/ إسترليني الأنغلو _أميركية. من ناحية أخرى، اتّبعت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة طريق العقوبات.
إن منظمة التجارة العالمية ليست حميدة وحيادية كما يُروّج في أحيان كثيرة. إذ إن قواعدها عرضة للتغيير بناءً على طلب الأقوياء


في الواقع، إن منظمة التجارة العالمية، مثل جميع المنظمات المتعدّدة الأطراف، مدفوعة بتوازن معين للقوى الاقتصادية والإيديولوجيّة والسياسية في المجال العالمي. وتشكّل علاقات القوة غير المتكافئة جزءاً من ديناميكيات المفاوضات والنتائج العالمية. لقد عانى الجنوب من خسارة كبيرة نتيجة إضعاف الأونكتاد وظهور العولمة النيوليبرالية وانهيار الاتحاد السوفياتي. لذا، إنّ منظمة التجارة العالمية ليست حميدة وحيادية كما يُروّج في أحيان كثيرة. إذ إن قواعدها عرضة للتغيير بناء على طلب الأقوياء. الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قادران على التلاعب بقواعد التجارة و التحايل عليها لزيادة الدعم مثلاً، بدلاً من تقليله. وترفض الولايات المتحدة إلغاء الدعم المقنّع لمنتجي القطن عندها، بمعزل عن تهديده لحياة الملايين في أفريقيا.
إنّ منظمة التجارة العالمية هي ساحة معركة حقيقية حيث تتقاتل الأطراف المتحاربة على قضايا حقيقية، وتأثيرها مشابه لتأثير الحروب الحقيقيّة المميتة، على حياة الملايين في الجنوب. التجارة تقتل. يستخدم الكبار والأقوياء فيها أسلحة متطورة، مثل الحجج التقنية والنصوص القانونية والأسلحة الإيديولوجية والسياسية ببراعة وخداع، مثلها مثل هجمات الطائرات من دون طيار. الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يغيران قواعد منظمة التجارة العالمية مع استمرارهما.

* هذا المقال هو عبارة عن نصوص مستخرجة من كتاب «التجارة هي الحرب»