«لقد ثبُت أنّ الأشياء لا يمكن أن تكون غير ما هي عليه. فبما أنّ كل شيء صُنع لغرض ما، فإنّه يترتب على ذلك أنّ كل شيء مصنوع لتحقيق أفضل غرض»
بانغلوس في كتاب «كانديد» لفولتير، 1759


يحب الاقتصاديون الاعتقاد بأنهم علماء، أو، في حال فشل هذا الطرح، مهندسون يمكنهم بناء أنظمة اقتصادية تعمل بشكل جيد. وفي الواقع هناك قيمة حقيقيّة لمنطق الاقتصاد، بما في ذلك بعض أدواته الرياضية. لكن القصص الاقتصادية المبسّطة تستخدم أيضاً، يوماً بعد يوم، للدفاع عن مجموعة معيّنة من السياسات التي تهدف إلى السماح للأثرياء والأقوياء بالأداء الجيد ماديّاً مع ضمان أن يكسب الجميع أقل منهم. بشكل متزايد، انتشر فهم استخدام الاقتصاد بهذه الطريقة في جميع أنحاء المجتمع، وعزّزته الأزمة المالية العالمية لعام 2008 والانتعاش الاقتصادي المخيّب للآمال.

كان جوتفريد فيلهلم ليبنيز، أحد أكثر الأشخاص ذكاءً على مرّ العصور. هو مخترع حساب التفاضل والتكامل(Calculus)، وخبير في جميع العلوم الطبيعية تقريباً، زمن روّاد الفلسفة الحديثة. وقد كان أحد اهتماماته الأساسيّة هو سؤال ديني في جوهره: إذا كان الله خيّراً وقديراً، فلماذا الشرّ والمعاناة موجودان؟ أجاب ليبنيز عن هذا السؤال، في كتابه «الثيوديسيا» عام 1710: «هناك عدد لا حصر له من العوالم الممكنة التي يجب أن يختار الله الأفضل من بينها، لأنه لا يفعل شيئاً من دون التصرّف وفقاً للعقل الأسمى». إذا كان من الممكن وجود عالم أفضل، لكان الله قد خلقه بدلاً من ذلك؛ لذا، نحن نعيش في العالم الأفضل من بين العوالم الممكنة.
لسوء حظ لايبنتز، اشتهرت فلسفته بأنها كانت موضوع رواية فولتير الساخرة «كانديد»، مانيفستو التنوير الفرنسي. في قصة فولتير، يثبت بانغلوس لتلميذه كانديد أنّنا نعيش في «أفضل العوالم الممكنة»، ويكرّر كانديد بمرح شعار «كل شيء يحدث للأفضل» وهو يعاني من تعاقب مذهل من المصائب.
لم يكن فولتير يسخر من لايبنتز فقط، بل أيضاً من استخدام الدين لتبرير النظام الاجتماعي في ذلك الوقت. كانت أوروبا في بداية عصرها الحديث عبارة عن عالم من المشقّة الماديّة على نطاق واسع، حيث عاشت قلّة مميّزة في راحة نسبية، بينما كافح باقي الشعب لتغطية نفقاته. وهو النظام الذي انقلبت عليه الثورة الفرنسية عام 1789. إذا كنت أرستقراطياً مالكاً للأراضي في أوروبا ما قبل الثورة عندما امتلك 1% من الناس نحو 60% من كل الثروة، كيف كنت ستبرّر الهوّة الشاسعة في مستويات المعيشة بينك وبين عامة الناس؟ حتى لو لم تكن متفائلاً صارماً مثل لايبنتز، لكنك على الأرجح كنت ستلجأ إلى تفسير ديني للنظام الاجتماعي. اعتماداً على طائفتك، ربما كنت ستعتقد أنّ التسلسل الهرمي الاجتماعي والاقتصادي قد تمّ إملاؤه من قبل الله أو أنّ «الفقراء الفاضلين» سيكسبون العدالة في مملكة قادمة. وفقاً لعالم الاجتماع ماكس ويبر، نحن مدينون بصعود الرأسمالية إلى البروتستانت الكالفينيّين الذين رأوا نجاحهم المادي دليلاً على خلاصهم الشخصي. بطريقة أو بأخرى، قدّم الدين تبريراً جاهزاً لمجتمع غير متساوٍ بشكل كبير.
إذا سرّعنا الأحداث إلى أواخر القرن التاسع عشر. نرى أنّ العالم الغربي قد تغيّر تماماً بسبب التصنيع ونمو الطبقة العاملة الحضرية. لكن مجدداً، عادت الهيمنة على المجتمع من قبل عدد صغير من العائلات الثرية ثراءاً فاحشاً، بأسماء مثل روكفلر، وكارنيغي ، وميلون، ومورجان. عشية الحرب العالمية الأولى، امتلك 1% من الناس أكثر من 40% من إجمالي الثروة في الولايات المتحدة. إذا كنت صناعياً ثرياً تعيش في قصر في وادي هادسون، كيف يمكنك تبرير نظام اقتصادي يسمح لك ولأقرانك بالعيش مثل الملوك الفرنسيين، بينما هناك كتب مثل «كيف يعيش النصف الآخر» تكشف قذر الأحياء الفقيرة في المدن؟


في عالم ما بعد التنوير، من غير المرجّح أن يقوم الدين التقليدي بدور التبرير هذا. بدلاً من ذلك، يمكنك أن تلجأ إلى العلم الحديث، على شكل نظرية التطور الدارويني، المطبق مجازياً على المجتمع البشري. ادّعى هربرت سبنسر، الذي كان له تأثير كبير في الولايات المتحدة بعد الحرب الأهلية، أنّ التطور المجتمعي يتطلّب «البقاء للأصلح»: «فقر العاجزين، الضيقات التي تأتي على غير المبالين، جوع الخمولين» جميعها مبادئ تخدم، في نهاية المطاف، التقدم طويل الأمد للبشرية. ترجم ويليام جراهام سَمْنر هذه العقيدة إلى احتفاء بالأثرياء: «يمكن اعتبار أصحاب الملايين، إلى حدّ ما، بمثابة وكلاء المجتمع الذين تمّ اختيارهم بشكل طبيعي للقيام بعمل معيّن. إنهم يحصلون على أجور عالية ويعيشون في رفاهية، لكنها صفقة جيدة للمجتمع». أي محاولة للتلاعب بهذا الترتيب الطبيعي للأمور سيكون مصيرها الفشل. بالنسبة لرجال الأعمال الذين خرجوا منتصرين من النضال «التطوّري»، فقد قدمت هذه النظرة للعالم تبريراً مناسباً لثرواتهم ومكانتهم الاجتماعية. على حدّ تعبير المؤرّخ ريتشارد هوفستاتر، إنّ الداروينية الاجتماعية «تم الاستيلاء عليها كإضافة فكرية مرحّب بها، ربما هي الإضافة الأقوى على الإطلاق، لمخزن الأفكار التي ناشدها الرجال المحافظين عندما كانوا يرغبون في مواساة زملائهم مع بعض مصاعب الحياة».
الآن، لنسرّع الأحداث إلى يومنا هذا. في جميع أنحاء العالم المتقدّم، عادت الثروات الهائلة إلى مسارها التصاعدي مجدداً. في الولايات المتحدة، يحصل الـ1% الأعلى أجراً على حصّة أكبر من إجمالي الدخل مقارنة بأي وقت آخر، باستثناء أواخر عشرينيات القرن الماضي. تضاعفت الثروة الإجمالية لأصحاب المليارات في العالم نحو أربع مرات في العقدين الماضيين (حتى إذا أُخذ في الاعتبار انعكاس التضخّم على قيمة الثروات). تظهر علامات هذه الزيادة في كل مكان، من حفلة عيد ميلاد ستيفن شوارزمان التي كلّفته 3 ملايين دولار إلى الشقّة التي اشتراها بيل أكمان في نيويورك بنحو 90 مليون دولار، وهو لا يخطّط للعيش فيها. في غضون ذلك، يعاني الناس العاديون. ففي الولايات المتحدة، تجني الأسرة المتوسطة أموالاً أكثر بنسبة 8% (بعد التعديل وفقاً للتضخم) مما كانوا يجنون عليه في أوائل السبعينيات، وحتى هذه الزيادة الضئيلة ترجع إلى حقيقة أنّ المزيد من الناس يعملون اليوم، سواء عن طريق الاختيار أو الضرورة، فقد أصبح عمل الأم في الأسرة أمراً رائجاً. انخفض متوسط ​​دخل الرجال. في الخمسينيات، كان الرئيس التنفيذي لشركة كبيرة يحصل على دخل يعادل دخل عشرين موظف كمعدّل، أما اليوم فيتقاضى الرئيس التنفيذي ما يصل إلى أجور 200 عامل. ظلّت النسبة المئوية للأسر الفقيرة من دون تغيير كبير على مدى نصف القرن الماضي. لم يتسبّب المدّ المتصاعد برفع كل القوارب.
انعدام المساواة يعكس حقيقة أنّ بعض الناس أكثر ذكاءً أو مهارة أو أكثر عملاً من غيرهم


إذا كنت أحد أسياد وول ستريت أو مدير صندوق تحوّط ملياردير، فإنك تواجه نفس التحدّي الذي واجهه الأرستقراطيون والصناعيون في القرون الماضية: كيف تبرّر الهوّة الاقتصادية الواسعة التي تفصلك عن الأشخاص الذين تمرّ بهم في الشارع كل يوم؟ من غير المرجح أن تكون نداءات اللاهوت المسيحي أو نظرية ضرورة التطوّر مقنعة اليوم. بدلاً من ذلك، يمكنك اللجوء إلى مصدر آخر للحقيقة المطلقة: صف «الاقتصاد 101» الجامعي. طبقاً للفصل الاقتصادي التمهيدي، فإنّ دخل كل شخص يساوي ناتجه الهامشي: فمن المحتّم أنك تتلقى قيمة عملك كاملةً. أما انعدام المساواة، فهو يعكس ببساطة حقيقة أن بعض الناس أكثر ذكاءً أو مهارة أو أكثر عملاً من غيرهم. فبحسب دروس الاقتصاد في الجامعات، إن التلاعب في التوزيع الطبيعي للدخل، على سبيل المثال من خلال الضرائب، ما من شأنه أن يقلّل من الحافز على العمل ويجعل الجميع في حالٍ أسوأ. يضمن قانون العرض والطلب استخدام جميع الموارد بالطريقة الأمثل ما يزيد من الرفاهية الاجتماعية. محاولات التدخل في هذه المبادئ الأساسية، من خلال القيود التشريعيّة على سبيل المثال، لا تخلق إلا «خسائر فادحة» تقلّل من الناتج الإجمالي للاقتصاد.
نحن نعيش في أفضل العوالم الممكنة (أو سنفعل ذلك ، إذا تمكّنا فقط، من التخلص من تلك الضرائب والقيود)، لكن المبرّر اليوم ليس أنه لو وجد الله عالماً أفضل لعشنا فيه، ولكن لأن أي عالم آخر سيجعل الجميع في حالٍ أسوأ.

* ملخّص من كتاب «الاقتصادوية: الاقتصاديات السيئة وصعود انعدام المساواة» لمؤلفه جيمس كواك