ظلّت الرأسمالية الأميركية، أنجح نظام رأسمالي في العالم حتى وقت قريب. والحقيقة أنها أفضل الأنظمة الرأسمالية التي بينها بريطانيا وألمانيا واليابان، إذ إن الرأسمالية الأميركية تجنّبت فخين كبيرين؛ أولاً، هي أوجدت طريقة مميزة لإدارة الصراع بين الطبقتين الرأسمالية والعمالية، لفترة طويلة قبل أن تفقد تلك الميزة. كما أوجدت أيضاً طريقة لتنظيم حكمها الإمبريالي من دون الحاجة إلى الاستعمار المباشر الذي أثار حركات مقاومة تبيّن في نهاية الأمر، بالنسبة لبريطانيا وألمانيا واليابان والقوى الاستعمارية الأخرى، أنها مكلفة للغاية ولا يمكن إدارتها. ولكن في العقود الأخيرة، فشلت الرأسمالية الأميركية في إدارة صراعاتها الطبقية، وخلق أداؤها السياسي في إدارة الصراع، مساراً انحدارياً في إمبرياليتها غير الرسمية.لقد تعلم القادة الصينيون، بشكل ضمني أو مباشر، كيف فقدت الرأسمالية الأميركية القدرات الناجحة في إدارة الصراع الطبقي في أوجّ استحكام نظامها الرأسمالي الإمبريالي. وعلى هذا أساس الفهم الصيني لطبيعة الصراع الطبقي، ومن منطلق استيعاب التجربة الأميركية، وفي إطار صنع تجربتها في الانخراط في اقتصاد السوق، نظّمت الصين العلاقات بين أصحاب الأعمال والموظفين بشكل مختلف. وبسبب هذا التدبير أصبح الاقتصاد الصيني في مسار صعود، بينما أصبح الاقتصاد الأميركي على طريق النزول عن قمة العالم الاقتصادية. إن مسار الاقتصادين يحدث بوتيرتين غير متساويتين، بطبيعة الحال، تتعدد الاختلافات بين اقتصادي الولايات المتحدة والصين، لكن النمط والاتجاه العامّين لهذا الصراع لا يزالان كما هما: صعود الصين وهبوط الولايات المتحدة.
منذ عام 1820 حتى السبعينيات، وظفت الرأسمالية الأميركية أعداداً هائلة، ومتسارعة النموّ، من العمال، ودفعت لهم أجوراً حقيقية. هذه الأجور كانت تحقق نمواً مستداماً في كل عقد من الزمن حتى عقد السبعينيات. وقد تم تمكين هذا الأداء المميّز ودمجه مع ثقافة حثّت على الاستهلاك (الإيجابي) كتعويض عن العمل (السلبي). وأدّى هذا المزيج إلى إضعاف جاذبية المنشقين والراديكاليين والاشتراكيين وغيرهم من منتقدي الرأسمالية حتى عقد الثلاثينيات من القرن الماضي. وخلال 150 عاماً نمت الإنتاجية في الولايات المتحدة بسرعة أكبر من الأجور الحقيقية، وبذلك تعزّزت الأرباح بسرعة. وتفوقت الولايات المتحدة على الرأسماليات الأخرى، على مستوى الأرباح المتراكمة لفئة أصحاب العمل، والأجور الحقيقية التي تتدفق إلى فئة العمّال.
إلا أنه في عام 1929 شهدت أميركا انهياراً في سوق الأسهم، تبعه الكساد الكبير في الثلاثينيات. بعد ذلك انهارت الرأسمالية الأميركية، كما انهارت وعودها بالازدهار والنمو. وخوفاً من الانهيار الاقتصادي، عرضت طبقة رأس المال، أي أصحاب العمل في الولايات المتحدة - عبر الحزب الديموقراطي بقيادة الرئيس الأميركي السابق فرانكلين روزفلت - صفقة، كانت بمثابة تحالف، مع طبقة العمّال. وتمت الصفقة بوساطة من كبار نقّاد الرأسمالية في ذلك الوقت: مؤتمر المنظمات الصناعية بالإضافة إلى حزبين اشتراكيين وحزب شيوعي. وأنتج أصحاب العمل والعمّال معاً ما سمي بـ«الصفقة الجديدة». وأدّى توجه سياسي طارئ نحو اليسار إلى إزالة جزء كبير من التفاوتات الاقتصادية والطبقية التي نشأت في الولايات المتحدة قبل عام 1929.
لقد كانت هذه العملية عبارة عن «إعادة انطلاق كبيرة» أتاحت، مع الحرب العالمية الثانية، استئناف النسق التصاعدي للرأسمالية الأميركية. علاوة على ذلك، اتّخذ هذا النسق بُعداً إمبريالياً إضافياً، عندما قوّضت الحرب العالمية الثانية الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، ما سمح للإمبراطورية الأميركية الحديثة بالتحرك بسرعة لاستبدال أشكال الاستعمار بشكل جديد هو الاستعمار غير المباشر.
لكن طبقة أصحاب العمل في الولايات المتحدة ارتكبت خطأً استراتيجياً فادحاً، بعد نهاية عهد روزفلت وبعد الحرب العالمية الثانية. لقد فشلت هذه الطبقة في إدراك حقيقة كيف أن قوة اليسار في الثلاثينيات أنقذت، عن غير قصد، الرأسمالية الأميركية من خلال عملية «إعادة الإطلاق الكبير». وكانت «الصفقة الجديدة»، في جزء كبير منها، حافزاً كينزياً قائماً على مبدأ أن أرباح الشركات الصغيرة والأفراد تصل في نهاية الأمر إلى الأطراف الكبيرة في الاقتصاد، على عكس السياسات الاقتصادية التقليدية للحكومات الأميركية، القائمة على مبدأ أن أرباح الكبار تفيد في نهاية الأمر الأطراف الصغيرة. لقد أخرجت السياسات اليسارية الولايات المتحدة من الكساد الكبير، مع نتائج أدّت إلى الحدّ من اللامساواة في الدخل والثروة على عكس العقود التي سبقتها والتي لحقتها. ولكن بسبب الخوف والغضب من دفع الضرائب لتمويل «الصفقة الجديدة» والإصلاحات الأخرى المماثلة، وبسبب صعود يسار أميركي قوي، وتحالف الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية مع الاتحاد السوفياتي، قررت طبقة أصحاب الأعمال بعد عام 1945 التراجع عن «الصفقة» وكل تلك التطورات التي رافقتها. لقد حدّدت هذه الطبقة، بشكل رئيسي، من خلال جناح الحزب الجمهوري، مهمّة التراجع عن «الصفقة الجديدة» عبر تدمير التحالف الذي أنشأها (مؤتمر المنظمات الصناعية بالإضافة إلى الاشتراكيين والشيوعيين). ونجحت هذه الطبقة في تدمير هذا التحالف وكل مكون من مكوناته. ومع ذلك، فإن هذه الحطام أعادت أيضاً توجيه الرأسمالية الأميركية إلى مسار أنهى 150 عاماً من الصعود.
قد يكون النظام الرأسمالي في الصين وصل إلى آخر أشكاله، وربما يمهد ذلك الطريق للانتقال إلى ما بعد الرأسمالية


وبحلول السبعينيات، توقفت عملية «إعادة الإطلاق». لقد هزم أصحاب العمل العمّال واليسار، لدرجة أنهم، أي أصحاب العمل، انغمسوا في اغتنام الفرص لتعزيز الأرباح من دون خوف أو حتى قلق بشأن ردود أفعال العمّال. وقام العديد من أصحاب العمل الأميركيين بنقل عمليات إنتاجهم إلى الخارج، حيث الأجور أقل بكثير، ما جعل أرباح الشركات الأميركية أعلى بكثير. وتم التلويح بسياسات الهجرة الجديدة. وبدلاً من الاستمرار في مسار الارتفاع في الأجور الحقيقية الذي دام خلال كل العقود من عام 1820 إلى عام 1970، شهدت الخمسون عاماً الماضية ركوداً في الأجور الحقيقية جنباً إلى جنب مع تزايد في ديون الأسر.
وفي خضم هذا كله، استخلص العديد من صانعي السياسات في الصين دروساً من تجربة الولايات المتحدة، بناء على قاعدة أي السياسات يجب تكرارها وأي السياسات يجب تجاهلها. ورأت الصين أن الرأسماليين الأميركيين قد عملوا في كثير من الأحيان بشكل وثيق مع إدارة الدولة الأميركية بنجاح للقيام بمشاريع كبرى من خلال تنسيق وتعبئة الموارد العامة والخاصة. وقد شملت هذه العملية قرناً من الحروب أشعلتها أميركا لإخضاع وطرد وإبادة السكان الأصليين، ثم شنّت حروب الاستقلال عن بريطانيا في 1776 و 1812، إضافة إلى إنهاء اقتصاد العبودية التنافسي في جنوب الولايات المتحدة عن طريق الحرب الأهلية، والقيام بالبنية التحتية التي احتاجها الرأسماليون للنموّ (مثل قنوات مائية وخطوط سكك حديدية)، ودفع مصالح الرأسماليين الأميركيين في الحربين العالميتين الأولى والثانية وما تلاها من تعافٍ، واستبدال أنظمة الاستعمار القديمة، بعد عام 1945، بالهيمنة العسكرية والاقتصادية والسياسية الأميركية.
في الصين ، لاحظ صانعو السياسات الاقتصادية أيضاً، كيف ومتى أصابت نقاط الضعف وانعكاساتها الرأسمالية الأميركية. لقد بدأت الرأسمالية غير المنظمة بعد الحرب العالمية الأولى وبعد الانهيار في عام 1929. وبشكل مماثل، إن الرأسمالية غير الخاضعة للتنظيم («الليبرالية الجديدة» أو «المعولمة») بعد السبعينيات ظهرت بشكل واضح في انهيار عام 2008. حيث أدى رفض التأمين الصحي الوطني إلى تمكين تجمّع صناعي-طبي خاص من زيادة أرباحه، كما أدى إلى إبطاء الرأسمالية الأميركية للاستفادة من ربحيتها الزائدة. كما أن عدم استعداد الولايات المتحدة لمواجهة وباء كورونا أوصل إلى نتائج كارثية.
بشكل عام، خلصت الصين إلى أن تحقيق الأهداف الاجتماعية ذات الأولوية في الولايات المتحدة، كان يحدث أكثر عندما يتم تنسيق الموارد العامة والخاصة وتركيزها لتحقيق ذلك. ولاحظت الصين أيضاً أن الحروب والأزمات الاقتصادية الأميركية، غالباً ما أنتجت هذا التنسيق والتركيز. وكان الاستنتاج المنطقي للمراقبين الاقتصاديين في الصين هو اعتبار أن برنامجاً مستمراً للتنسيق والتركيز بين الموارد العامة والخاصّة، يمكن أن يتفوق بشكل عام على ما حققته الولايات المتحدة.
يتلاءم هذا الاستنتاج بشكل جيد أيضاً مع مفهوم الصين للاشتراكية ذات الخصائص الصينية. في هذا المفهوم، يؤمّن الحزب الشيوعي، والدولة التي يسيطر عليها، البرنامج المستمر للتنسيق والتركيز، لنظام يمزج بين الشركات الخاصة والعامة. وينسب قادة الصين الاقتصاديون، إلى هذا البرنامج، الارتفاع المثير للإعجاب في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي. بين عام 1977 وعام 2020، كان متوسط معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي للصين (9.2%)، أعلى بثلاث مرات من الرقم في الولايات المتحدة (2.6%). كما ارتفع متوسط الأجر الحقيقي في الصين بشكل حاد في السنوات الأخيرة، وهو ما تشير إليه الدولة على أنه نجاح آخر لنظامها الاقتصادي. في المقابل، شهدت الأجور الحقيقية في الولايات المتحدة ركوداً أخيراً. إن تفوق السجل الاقتصادي الصيني الأخير على سجل الولايات المتحدة، هو دليل مقنع للصين لمواصلة سياستها. لقد تعلمت الصين من تجربة الولايات المتحدة كيف تتفوق على الرأسمالية الأميركية.
كتب كارل ماركس ذات مرة أنه لا يمكن لأي نظام اقتصادي أن يختفي قبل أن يستنفد جميع أشكاله الممكنة. إذا فهم المرء الأنظمة الاقتصادية، مع ماركس، على أنها طرق خاصة لتنظيم علاقات الإنتاج الإنسانية، فإن الرأسمالية هي تلك الطريقة التي تقارن بين أصحاب العمل والعمّال. وقد طورت بريطانيا، وبخاصة الولايات المتحدة، ذلك النظام الاقتصادي مع التركيز القوي على أشكال المشاريع الخاصة. بينما طور الاتحاد السوفياتي هذا النظام مع التركيز على أشكال المؤسسة العامة. وفي غضون ذلك، طوّرت الصين هذا النظام الاقتصادي من خلال المزج بين أشكال المؤسسات الخاصة والعامة (كما فعلت الدول الاسكندنافية وأوروبا الغربية أيضاً)، ولكن مع التركيز على سيطرة مركزية قوية لتنسيق وتعبئة كل من الشركات الخاصة والعامة لتحقيق الأهداف الاجتماعية ذات الأولوية. وبالتالي قد يكون النظام الرأسمالي في الصين وصل إلى آخر أشكاله، بحسب التعبير الماركسي، وربما يمهد ذلك الطريق للانتقال إلى ما بعد الرأسمالية.
* نُشر هذا المقال على موقع
Counterpunch.org 23/11/2021