كثافة شبكة الطرق استثنائية، لكن وضعها وفعاليتها معيبة، سواء لجهة الجودة (عدم استواء سطحها، وكثرة الحفر) أو لجهة غياب المعدات والتجهيزات المساعدة (خطوط المسارات، معابر المشاة، الأرصفة، إشارات المرور، وعلامات الطرق). وفقاً لنتائج المسوح التي أجرتها إدارة الإحصاء المركزي حول ميزانية الأسرة (2004 و2012).
معالم كلفة النقل
تتميّز النفقات المتعلّقة بالنقل ببعض المعالم البارزة:
* تشكل نفقات النقل بمجملها ما بين 12% و13% من إنفاق الأسرة في كلا التاريخين.
* يزداد الإنفاق على النقل بسرعة كبيرة كلما زاد الإنفاق الإجمالي. تتراوح المرونة بين 1.8 (2004) و2 (2012). بحيث ترتفع نسبة الإنفاق على النقل من مجمل النفقات من 2.3% إلى 16.5% (في 2004) ومن 2.3% إلى 19.6% (في 2012).
* تختلف هيكلية الإنفاق بشكل كبير وفق مستويات معيشة الأسر (مستويات الإنفاق الإجمالي). الأرقام المفصّلة متوافرة عن عام 2004 فقط، لكن النتيجة واضحة: النقل العام للفقراء والسيارات الخاصة للأغنياء.
هذا الوضع البائس والمُكلف اقتصادياً، والنهج السلوكي والمؤسسي الذي يزعم معالجته بينما هو في الحقيقة يحافظ عليه، كلاهما يعتمد على انحراف أساسي في فهم ماهية النقل والتنقل في المجتمع والاقتصاد. الوضع الحالي ليس صدفة ولا أمراً عابراً:
1. ليس النقل ببساطة وتلقائياً مسألة شبكات (طرق، سكك حديدية...) ومركبات نقل (سيارات، حافلات، قطارات...) وأغراض منقولة (أشخاص وبضائع)، تستجيب معاً لاحتياجات معاينة أو مقدّرة، ويتوجب أو يكفي التعامل معها «تقنياً» وفق اعتباري الدفق والسرعة. كل تنقل يتضمن استخدام مجموعة من الوسائط المختلفة، أسلوباً متعدداً قبل «الرحلة» وأثناءها وبعدها، من الجهوزية إلى الإعداد، فالوصول إلى المركبة، فالتحميل، ثم الوقوف، والتفريغ، وفي حالات كثيرة الانتقال إلى رحلة مكملة بغية الوصول إلى المقصد. غالباً، يتم تجاهل النقل «الليّن»، وأبسط أشكاله السير على الأقدام، ويغيب الطابع المتعدّد الوسائط للتنقل فينحرف تقدير مجمل الأكلاف الفعلية للتنقل، المباشرة والمضمنة.


2. خلافاً للرأي السائد ولأعراف الحسابات القومية، لا يصح اعتبار تنقل الأشخاص، وبالتالي كلفة انتقالهم، جزءاً من استهلاكهم النهائي، باستثناء السياحة والزيارات العائلية التي تظل حصّتها ضيئلة، بل يتوجب اعتبارها مدخلاً من مدخلات عمليات الإنتاج. فالتنقل من المسكن إلى العمل أو منه إلى المدرسة أو منه إلى السوق تفرضها أنماط تموضع السكن والعمل والأنشطة التجارية. نقل البضائع، الذي يخضع للمعطيات المجالية نفسها، يحتسب بنداً من بنود كلفة الإنتاج. ليست هذه المفارقة مسألة نظرية، فهي تنعكس في التباس الوضع القانوني لبدلات النقل وفي المساهمات الضريبية التي تغطي أجزاء من كلفة النقل العام.
3. في الأساس، شكبات النقل «المعروضة»، أي المتوافرة، هي في الوقت نفسه عوامل هيكلة المجال وموضوع طلب ناتج عن هذه الهيكلية. ولا يستقيم بالتالي اعتبار النقل قابلاً للمعاينة والمعالجة على أساس منطق العرض والطلب. في هذا السياق، تبقى الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية هي المرجع الأساسي، ويفترض تحديثها لتكييفها مع التغيرات الكبيرة التي حصلت في لبنان والمنطقة منذ عام 2004. كل هيكلة للمجال تتوافق مع «كمية من النقل» وتتطلبها. كلفة التنقل تمثّل معياراً للكفاءة الاقتصادية لهيكلة المجال الذي تفرضه. تتضمن هذه الكتلة حركة الأشخاص والبضائع والمعلومات معاً، وإن تفاوتت نسبها. تتوزّع أعباء هذه الكلف وفق صيغ ونسب مختلفة بين الأسر والمؤسّسات والمكلّفين ثم وفق النظام الضريبي المعتمد، بين مداخيل رأس المال ومداخيل العمل. انطلاقاً من كلفة واحدة، تؤثّر صيغ ونسب توزيعها تأثيراً بالغاً على أكلاف الإنتاج وعلى توزيع المداخيل.

الخيارات المتاحة
ليس الوضع الراهن وليد الصدفة أو الجهل، بل هو نتاج خيارات ضمنية في الغالب، وصريحة أحياناً رغم وفرة الدراسات. وهو يعكس بشكل عام اعتبارين:
1. تجزئة المجال وفقاً لمعايير قاسية، طافية وطبقية (الطرقات الالتفافية التي تسمح بتلافي عبور مناطق غير مرغوبة، التفرعات حصر مجالات الحركة ضمن خطوط سير سريعة أو ضمن أسوار، تكرار التجهيزات للحدّ من «الاختلاط»...).
2. غلبة منطق الريع العقاري: الخفض الممنهج لمراتب شبكات الطرق وتحويل الأوتوسترادات إلى جادات تجارية الإكثار غير المحدود من الطرقات لغرض رفع أسعار الأراضي حصراً، في ظلّ نظام يجيز البناء في كل مكان، وما ينجم عن ذلك من تشتت للسكن، ومن نخر العمران للمناطق الطبيعية والزراعية، ومن إطالة لمسافات التنقل...
بحكم السببية الدائرية، وقلة مرونة تموضع الأنشطة والمساكن، يتوجب تقسيم العمل وفق بعدين زمنيين؛
1. الخيارات الأطول مدى تترجم خيار النموذج المجتمعي والاقتصادي. وهي تحدّد معايير المفاضلة بين الخيارات الأقصر مدى:
* اعتماد تراتبية واضحة للمواقع والوظائف (الجامعات، والمرافئ، والمنصات اللوجستية) وتخصصها بهدف رفع مستويات الكفاءة تجاه الخارج والتكامل في الداخل،
* تفكيك عوامل الفصل الطبقي و/أو المجتمعي.
2. تعكس الخيارات الأقصر مدى، على الصعيد التقني، منطق التماسك والكفاءة الاقتصادية، وهي تحدد معايير إعادة توزيع المداخيل وإعادة توزيع الكلف:
* إعادة توزيع «كمية النقل» عبر زيادتها على مستوى ربط الأقطاب (المحور المباشر بين المدن: طرابس – بيروت – النبطية في البداية، وبيروت – زحلة – بعلبك في مرحة ثانية)، وخفضها من كل من الأقطاب، ولا سيما ضمن مدينة بيروت (الفعلية وليس الإدارية)، بين طبرجا وبيت مري والدوحة والدامور، وذلك عبر إنشاء شبكة نقل مشترك على مسارب مخصصة (tcsp)، تستخدم الشوارع والطرقات القديمة التي كانت الشرايين التي تشكلت حولها المدينة (طرق دمشق وصيدا وطرابلس وغيرها)، بتحويلها إلى محاور مخصصة أو ذات استعمالات متناوبة، وتسهيل التنقل اللين (مسارات الدراجات والأرصفة والمساحات الخضراء).
* استعادة الأوتوسترادات لوظائفها وطاقاتها المرورية، وفصلها عن المباني والمحلات التجارية المقامة على جانبيها،
* خفض الكلفة الاقتصادية الاجتماعية للتنقل عبر إحداث تحوّل حاسم في الوسائط المستخدمة، يقوم على إعادة توزيع الأكلاف المباشرة والمضمنة والخارجية (ضرائب على استهلاك الوقود، واستيراد المركبات واستخدامها، وفقاً لمستويات استهلاكها وما تحدث من مضار، ودعم كلف النقل العام المشترك).
تسمح الإجراءات المالية المذكورة بتحقيق وفر ملحوظ على صعيد الميزان التجاري يسمح بتمويل المشاريع اللازمة، رغم ضيق الأوضاع المالية.

استراتيجية للنقل الخارجي
لا ينفصل لبنان كمساحة اجتماعية اقتصادية، ثم كدولة، عن نشأة مرفأ بيروت، وتطوره على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط حتى أصبح بوابته الأولى في منتصف القرن التاسع عشر. تمّ نقل النفط العراقي ثم السعودي عبر خطَّي أنابيب يصلان إلى شمال طرابلس وجنوب صيدا حيث أقيمت مصفاتان ومحطتا تحميل. كان الخطان مصممين في الأصل لينتهيا في حيفا في فلسطين إلى حين احتلالها في 1948. نجحت سوريا في 1952 في تأمين خط فرعي إلى بانياس من خط أنابيب شركة نفط العراق (ipc) وقد بات كلا الخطين خارج الخدمة نتيجة استخدام ناقلات النفط العملاقة والتوترات والحروب الإقليمية.
بين عامي 1967 و1975، أدّى إغلاق قناة السويس إلى ازدهار مرفأ بيروت بشكل غير عادي. ورغم توقّف المنافسة مع مرفأ حيفاء بعد إقامة «دولة إسرائيل» باشرت سوريا بتجهيز مرفأي اللاذقية وطرطوس في عام 1950، فأدى ذلك إلى تحويل حركة النقل البحري على حساب مرفأي بيروت وطرابلس.
كان تأثير الفاعلين الدوليين (البريطانيين والفرنسيين والأميركيين) حاسماً في هيكلية المجال الإقليمي بأكمله. واحتلال فلسطين قطع الصلة البرية مع مصر.
التقدم الذي استفاد منه لبنان، وخصوصاً بيروت، في مجال النقل البحري، انعكس موقعاً مركزياً على صيد النقل البري، من طرق وسكك حديدية. وانعكس ذلك أيضاً على صعيد النقل الجوي، فاحتلّ مطار بيروت الدولي مكانة إقليمية متقدمة، واستضاف العديد من شركات الطيران اللبنانية، وكلها شركات خاصة: طيران لبنان (Air liban) الخطوط الدولية اللبنانية (LIA)، طيران الشرق الأوسط (MEA) للركاب، والخطوط الجوية عبر المتوسط (TMA) للشحن.
شن الإسرائيليون عملية كوماندوس في 28 كانون أول 1968، ودمروا 14 طائرة مدنية كانت تمثّل قسماً كبيراً من الأسطول الجوي اللبناني.
وجهت الحرب الأهلية ضربة قاسية للقطاع بأكمله. سياسة الاكتفاء الذاتي التي أنتجتها سوريا منذ استقلال البلدين، وانهيار الوحدة النقدية والجمركية، ثم الضغوط التي كانت سوريا تفرضها بين الحين والآخر على حركة المرور البري، أضعفت جميعها موقع لبنان الإقليمي. أخيراً، أدّت الحرب الأهلية السورية إلى محاصرة لبنان براً وتحويله إلى ما يشبه جزيرة. وأدّى تراجع وزن أوروبا كشريك تجاري رئيسي للمنطقة لصالح الدول الآسيوية، والازدهار الاقتصادي في دول الخليج المُنتجة للنفط، إلى قلب وجهة الاستقطاب في المنطقة، فهمّشت واجهتها على البحر الأبيض المتوسط لصالح واجهتها الخليجية.
واحد من خيارات النقل الخارجي تعزيز مربع بيروت – دمشق – حمص – طرابلس، وتقوية محور بيروت، دمشق – بغداد وصولاً إلى طهران (ثم «طريق الحرير» المُحتملة)، ونحو الكويت (بيروت – الكويت ترعة برية بطول 1300 كيلومتر)


لن يتمكن لبنان من مواجهة هذه التحولات السياسية والاقتصادية، لا لوحده ولا بسرعة. لكن هناك مقاييس أخرى يمكن العمل عليها، علماً بأن تفاعلها يُنتج تأثيرات مضاعفة:
على الصعيد الوطني أولاً، من خلال:
1. اعتماد إدارة عقلانية صارمة للاستثمارات في البنية التحتية وكلف تشغيلها ونوعية خدماتها. وهو تماماً عكس الزيادة المستمرة في أعداد الموانئ (والمطارات أيضاً) خدمة لإعادة التوزيع الزبائنية، رغم ما ينتج عنه من تشويه للشاطئ وتدمير للمواقع التاريخية، وعكس إقامة احتكارات على بعض الخطوط الجوية الرئيسية المباشرة لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل، على حساب خسارة قسم كبير من الحركة لصالح شركات الطيران الأجنبية، واضطرار المسافرين لتحمّل التوقّف عند محطات خلال سفرهم، وتفاقم الكلف الاقتصادية الإجمالية.
2. تعزيز التخصص والأداء في الأنشطة الاقتصادية (الصناعة، التعليم، الصحة، الثقافة، خدمات الأعمال) التي تزيد حركة الركاب والبضائع من وإلى لبنان.
3. تنظيم العلاقات مع الهجرة اللبنانية في مجالات التعليم والتجارة بما يتجاوز الروابط الأسرية البسيطة، ويعزز التدفقات، ويفتح إمكانية إنشاء خطوط نقل إلى البلدان التي يقيمون فيها وحيث يكون لديهم وزن كافٍ.
على الصعيد الإقليمي ثانياً، وبقدر ما يمكن المفاوضات السياسية المُسبقة أن تنجح، تبقى المخاطر والمكاسب أكبر، بينما المنافسة على محاور النقل والاتصال تشكل مكوناً واضحاً للتوترات والصراعات. تسعى تركيا إلى إعادة تشكيل المجال الإقليمي من الشمال مستفيدة من موقعها الجغرافي الذي يتحكم بالعبور براً نحو أوروبا. وتسعى إسرائيل إلى فرض نفسها ليس فقط كممر إلزامي بين مصر والشرق، وإنما أيضاً تجاه أوروبا. في هذه اللعبة الخطرة والمعقدة، يجب أن يسعى لبنان إلى دفع بعض الخيارات الأساسية قدماً:
1. تعزيز مربع بيروت – دمشق – حمص – طرابلس، وتقوية محور بيروت، دمشق – بغداد (لا يبعد العراق عن أوروبا لنقل البضائع، إلا 8 أيام عبر لبنان، مقابل 30 يوماً عبر الخليج وقناة السويس)، وصولاً، من جهة أولى إلى طهران (ثم «طريق الحرير» المُحتملة)، ومن جهة أخرى نحو الكويت (بيروت – الكويت ترعة برية بطول 1300 كيلومتر).
2. تطوير العلاقات مع مصر (لا تبعد بورسعيد إلا نحو 400 كيلومتر من المرافئ اللبنانية)، التي تشكل سوقاً وشريكاً رئيسياً على المدى الطويل.
3. كما يجب الحفاظ على الخطوط البحرية مع دول البحر المتوسط وتطويرها، مع مراعاة العلاقات القديمة والحضور الفاعل لشركات لبنانية في المنطقة (مرسيليا والموانئ الإيطالية وقبرص واليونان، إلخ...). ويجدر أيضاً أخذ خطوط كابلات الاتصالات عبر البحر المتوسط بالحسبان ضمن هذه المقاربة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا