لم يحدث أن شعرت الطائفة العلوية في سهل عكار بثقل الحدث السوري وانعكاساته اللبنانية كما يحصل اليوم. لطالما كان أبناء الطائفة يترقبون ما يحدث في طرابلس، بين باب التبانة وجبل محسن. أما من الجهة السورية، فكانت أصوات القذائف ودوي الانفجارات ترفع منسوب القلق من دون أن تغيّر كثيراً في مسار حياتهم اليومية. وفي الحالتين، كانوا يمارسون ضبطاً ذاتياً لتحركاتهم، فيخففون من توجههم نحو طرابلس، تماماً كما يفعل المقيمون في جبل محسن من أصول عكارية إذا ما أرادوا تفقد أهلهم أو قضاء مصلحة لهم في سهل عكار. وبدرجة أقل، كانوا يقلّلون من تجوالهم في بعض المناطق العكارية، خشية التورط في حادث مفتعل، فيؤجلون عملاً، ريثما تنتهي جولة اقتتال في طرابلس، وفي انتظار جلاء غبار معركة بين الجيش السوري والمعارضة في إحدى المناطق القريبة من الحدود. حادثة خطف وحيدة لعلويين جرت في وادي خالد على خلفية تسليم أحد أبناء الوادي للنظام السوري انطلاقاً من سهل عكار. وقد تكفّلت فعاليات المنطقة من مختلف الطوائف بحلها، فحالت دون تطورها إلى حالة استنفار شاملة. وعلى المنوال نفسه، جرى تطويق ذيول خطابات مذهبية حاول إشعالها أحمد الأسير إثر تشييع الفتى ماهر حمد في قرية العريضة الحدودية التي تشهد تنوّعاً مذهبياً. لكن أهالي القرية، وبخاصة أولياء الدم، كانوا أشد حرصاً في درء الفتنة عن قريتهم. فجأة قفز الحدث إلى أبعد المناطق في القسم العلوي من سهل عكار، في قرية حكر الضاهري على الحدود السورية. رأس الطائفة صار مطلوباً. مؤسس الحزب العربي الديمقراطي علي عيد، زعيم الطائفة، بعرف مؤيديه ومعارضيه، يقيم في قرية صغيرة تتوسط سهل عكار، بمعنى الجغرافيا الطبيعية عموماً، وبالمدلول العلوي خصوصاً. يقول رئيس بلدية تلبيرة عبد الحميد صقر، وهو البعثي الذي طالما اتسمت علاقته بالحزب العربي الديمقراطي بالبرودة، إن استهداف علي عيد استهداف للطائفة برمتها، ولرمز وطني. وإذ يؤكد صقر أولوية البعد الاجتماعي في العلاقة بين مكونات السهل بمختلف تلاوينه، يستبعد انزلاق الوضع في عكار، وفي السهل خصوصاً، إلى ما يشبهه في طرابلس، بالنظر إلى تداخل المصالح بين أبناء المنطقة ووعي أبنائها لضرورة المحافظة على العيش الواحد. ثم ينتقل إلى وصف جغرافية السهل: «سهل عكار هو السهل المعروف في عكار، بالإضافة إلى السهل السوري وصولاً إلى مدينة طرطوس، والذي يحمل تسمية سهل عكار نفسها». وبالمعنى العلوي، يعدد صقر بعض القرى العلوية في الجانب السوري مثل خرب ة الأكراد، الدقار، بني نعيم، الحسنة، كرتو العزيزية، متحدثاً عن روابط القرابة والمصاهرة والعائلات الواحدة المقيمة على جانبي الحدود، مستهزئاً بما أشيع عن مرابطة دبابات سورية على الحدود.
قرية حكر الضاهري الصغيرة تسبقها من الجانب اللبناني بلدة الحيصا حيث ترفع صورتا الرئيس السوري بشار الأسد والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، بعلو طابق في إحدى البنايات على الطريق المؤدية إلى الحدود من ناحية معبر العبودية، وتسبقها أيضاً بلدة المسعودية التي تتوسط ساحتها الرئيسة لوحة حجرية، تجمع من ناحيتيها صور: القيادي التاريخي في الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي صالح العلي رمز الطائفة العلوية، والراحل حافظ الأسد مع أبنائه ومن بينهم الرئيس الحالي بشار الأسد. وبهذا المعنى تصبح قرية زعيم الطائفة علي عيد المقر الذي يمد البلدات والقرى المحيطة بها بقوة معنوية سندها المادي العمق السوري، بدءاً من سهل عكار السوري، لا سيما البلدات العلوية المنتشرة على الحدود من الجانب السوري، وصولاً إلى الارتباط المصيري بالدولة السورية.
في بلدة المسعودية يجلس الرجل السبعيني أبو حاتم محمد علي في منزله في ساحة البلدة. يعلق على استدعاء النائب الأسبق علي عيد للتحقيق معه بتفجيري طرابلس بقوله «عملية الأستاذ علي مركّبة بالمية مليون».
يتذكر «الفقر الأسود» يوم كان المزارعون لا يملكون شيئاً، و«إذا زعل البيك كان بإيام الشتاء يقلعنا من بيت التراب، وكنا نحط مشمّعات على خيمة القصب ونسكن فيها»، وكان وكيل البيك إذا «شاف شاب مع صبية»، يسطو على ثور وعجل كـ«شرفية لبستان البيك». اليوم بعد أن هاجر أبناء محمد علي «لولا عفو الله والأولاد بهلك من الجوع». ومع ذلك «يا محلا أيام البيك، وقتها ما كنا نسمع هيدا سني وهيدا علوي». شحادة العلي، شقيق رئيس بلدية المسعودية، يرى أن الدولة اللبنانية طالما كانت تستر تقصيرها تجاه أهالي السهل عبر افتعال الانقسامات المذهبية وتعزيزها، مستذكراً عنوان مقالة في مجلة «الحوادث» تعود للعام 1969 «ثورة الفلاحين أم غضبة العلويين»، علماً ــــ يضيف العلي ــــ بأن يوسف عويد من بلدة الشيخ عياش كان ملاحقاً من قبل أجهزة الدولة، واليوم ابنه ناشط في تيار المستقبل.
خارج السهل، تقيم قلة من أبناء الطائفة العلوية في بعض قرى الدريب الأوسط والأدنى. يقول عبد الله موسى «نحنا جماعة فقرا ليش تنفوت بمتاهات». ينشط موسى في قرية الحوشب التي تقيم فيها مئتا أسرة علوية مقابل 500 أسرة سنّية. يهتم موسى بقضايا النازحين السوريين، لديه بعض الحظوة في وزارة الشؤون الاجتماعية، بحكم انتمائه إلى الحزب التقدمي الاشتراكي. يقول «أنا عايش بين الجماهير»، ويعيب على كوادر حزب البعث العربي الاشتراكي «بعدهم عن الناس»، ويذكر أنه يوم كان العقيد نبيل حميشي مسؤولاً في مفرزة الأمن في عكار، ذكّره بقول الرئيس الراحل حافظ الأسد في خطاب له في العام 1976 «لو أن كل عسكري سوري وكل بعثي في لبنان صادق لبنانياً لأصبح لبنان كله بعثياً»، والكلام، يضيف موسى، قاله في حضور مسؤولين من حزب البعث، كانوا يتحضرون في مفرزة الأمن لإحياء مهرجان ضد القرار 1959، وفي حينه سألهم إذا كان عناصر الحزب المكلفين بتأمين الحشد يعرفون مضمون القرار، محذّراً إياهم، بحسب قوله: «إذا راح تبقوا هيك بدكن تاكلو قتل كتير».