الإرهاب، الذي لم يعد تعريفه مجدياً، وامتزج بشعارات فاضت عن الواقع، كالحريّة والثورة، هو نفسه، الذي حصد 25 عابراً، في منطقة الجناح، في قلب بيروت. انتحاريان، من أحد أفرع «تنظيم القاعدة»، ارتكبا مجزرة جديدة في الحي الهادئ، أمس، كي يصعدا إلى الجنة، فوق جثث الجميع.
الحريق كبير. يبدأ في «شارع الماريوت»، ولكنه أطول من ذلك بكثير. شاهد الجميع التلفزيون. صور لا يحبّ أحد أن يراها. رؤيتها على هذا النحو، بلا مراعاة لهويّات أصحابها، ومن دون سؤالهم عن رأيهم في شيء، تصير تطفلاً على حيواتهم وتالياً على موتهم. لكن أحداً لا يكترث حتى وإن كان الحريق كبيراً وأبعد من الشارع الذي وقع فيه بكثير. الحريق كبير، والوقت لا يصلح لغير الإطفائيين، الذين لم يظهروا على شاشات محليّة وفضائيّة لاهبة تشبه الحريق العظيم. ظهر نواب سابقون وحاليون ومسؤولون حزبيون، قذفوا الآراء ذاتها التي يقذفونها كل مرة في مكان. آراء حفظوها كأنهم ينتظرون أول مكان متاح لكي يلقوها فيه ويغادروا. وكما أن الموت يؤلم الأحياء أكثر من الأموات، فخطابات الذين حضروا، بدت جزءاً من المشهد الدامي، يُخشى أن تصير اعتيادية؛ نوع من «ديكور»، زينة فاقعة لموت العابرين. نتحدث عن خطباء عظماء؛ أشخاص اتهموا «الكيان الصهيوني» وآخرون توعدوا «أميركا» بينما بدا الناس في الشارع ــ الذي عادةً ما يكون هادئاً على مدار الليل والنهار ــ مشغولين بأمور أكثر واقعية. الناس الحقيقيون الذين من حقهم أن يعرفوا الحقيقة أكثر من غيرهم، لا أن يستمعوا إلى شعارات زائفة تصدح قرب مبانٍ تدل على حجم المأساة. هؤلاء الذين كانوا يشاركون في عمليات الإنقاذ ويتشاركون المرارة. قرب المبنى الأكثر تضرراً، وهو مبنى سكني، مواجه لمبنى السفارة الإيرانيّة، كانت رائحة الموت في المكان قوية كفولاذ في الهواء. وهذا ليس شاعرياً، نتحدث عن رائحة حقيقيّة، عن أشخاص احترقوا، تسمروا في أمكنتهم واحترقوا. إنها رائحة تنتزع الأنف من مكانه وتجعل القلب يقشعر؛ إذ تتفشى من قطع بشريّة، غطاها المسعفون على عجل، قبل أن تصل الكاميرات التي هي كالضباع. أشلاء. هذه تسميّة قاسية، لكنها عادلة لغوياً.
في الدقائق الأولى، التي تلت الانفجارين، كان الجميع ذاهلاً. إنه ذهول سيتكرر في كل مرة. وبين رتل السيارات المتفحمة في الشارع الراقي، على مدخل «السفارة الإيرانيّة»، وصولاً إلى «شارع الشهيد محمود فقيه»، الذي يصل إلى جنوب بيروت عبر منطقة الجناح، حيث يقع مستشفى رفيق الحريري والمفترق المؤدي إلى بئر حسن، يمكن أن يجد الباحث كل ما هو مؤلم. رجل يبحث عن زوجته بفمٍ مفتوح وقلب مكسور. يبحث بين رتل من السيارات المتفحمة محاطاً بصراخ جنود لا يسمعهم. يقول إنها ليست في المنزل ولم تردّ على الهاتف منذ التاسعة والنصف. شاب يقول للعسكر إن والده من آل شمص ويعمل في السفارة الإيرانيّة. يمنعونه من الدخول فيكاد يبكي. يسمحون له فيهرع بصحبة أصدقاء تنطبق عليهم صفة «الجماهير». بدا غضبهم زائفاً مقارنةً بغضب الشاب الذي هرع إلى المكان كمن يعرفه جيداً، عابراً ركاماً كثيراً وعوائق حديديّة زرعها الجيش في المكان، لصدّ المتطفلين. وكان هناك رجل يحاول إقناع الجميع بأن ابن شقيقه يعمل سائقاً، وهو مرّ من هنا، وفقد الاتصال به. يسبّ الأحوال ويعود ليكرر أنه عاجز عن تمييز السيارة التي يقودها قريبه، فينصحونه بالبحث في المستشفيات القريبة. يرحل وهو بالكاد يستطيع أن يفهم، تاركاً شكوكه في مكان الانفجار. وهناك عاملات، من اللواتي لا يذكرهن أحد، تأكدت وفاتهن بعدما خرجن إلى الشرفات، إثر الانفجار الأول. وهناك عاملات جريحات، نقلن إلى المستشفيات، في سيارات الإسعاف. وإن كان للغربة معنى فهو هذا، وإن كان للغريب معنى، فهو تلك العاملة الإثيوبية الرقيقة، التي جهدت في إقناع المسعفين بأن يقلوها إلى المستشفى، بينما تبدو آثار الجروح عليها واضحة. لا يعني ذلك أن المسعفين لم يقوموا بواجباتهم، فالمسعف الذي أصعدها إلى السيارة صرخ بزميلٍ له، لأنه أهمل العاملة، وكانت هذه لقطة مضيئة في هذا الصباح الأسود، الذي اختتم بالإعلان عن الجهة الكريهة التي نفذت الجريمة: «تنظيم القاعدة ــ كتائب عبد الله عزام».
يقول السكان إنهم لم يتوقعوا شيئاً مماثلاً، فهم يقطنون في «منطقة راقية»، وإن وجود «السفارة الإيرانيّة» فيها كان مصدر طمأنينة لا العكس. وهم يقطنون في أحياء تقود في نهايتها إلى وسط بيروت عبر الأوتوستراد. بعضهم يردد أهازيج الصمود والثبات على المواقف، وبعضهم يحاول أن يكون عقلانياً ويدعو إلى محو آثار الانفجار أولاً. اهتز الشارع، المعزول منذ نشأته تقريباً، عن مختلف أنواع الخضات الأمنيّة، وهو شارع تسكنه طبقة من الميسورين مادياً عموماً. في آخر الشارع نفسه، على الأوتوستراد تقريباً، تحت الجسر العملاق الذي يصل إلى «الأونيسكو»، وقفت دراجة نارية صغيرة. وكان السائق يتمتم ببضعة كلمات غير مفهومة. مثل الجميع يبدو متأثراً. نتنصت عليه، مثل الجميع، نتطفل على المشهد. ردد أسماء لا نعرفها. أسماء لمن يفترض أنهم يمرّون، مثل الجميع، من هناك، قرب السفارة. راح يومئ برأسه حيناً ويقطّب حاجبيه حيناً آخر. أراد أن ينهي هذه المكالمة بأسرع وقتٍ ممكن، بدا هذا واضحاً. ثم بصوت خافت، فيه من التسليم بالمأساة أكثر من الاعتراض عليها، ردد ما لم يكن يريد ترداده. صوت خافت ولكن صداه يصل إلى مكان عميق في قعر القلب. صوت ينساب ببطء عبر هاتف نقال، ولكنه يصل إلى العالم الآخر. «لا، لا، أحمد استشهد، عطاك عمرو». يغلق الخط ويفرغ ما حبسه في رئتيه قبل قليل. بكاء على قارعة الطريق. صداه يصل إلى آخر العالم. لقد ماتوا. أحمد ونورا ورضوان وعلاء وغيرهم. ماتوا بعد أن زحف القتلة من الصحراء وانتحروا، بعدما انفجر نصف طن من المتفجرات، وكانت تكفيهم بضعة ثوانٍ لكي يقطعوا الطريق ويصلوا إلى آخر الشارع. كان يكفي أن يقطعوا الشارع فقط.


يمكنك متابعة أحمد محسن عبر تويتر | @Ahmad_Mohsen