ليس لدى تيار المستقبل ما يخجل به: يزيّن نوابه العكاريين بأول من خاض معركة باسم التكفيريين المسلحين في جرد الضنية ضد الجيش اللبناني عام 2000. حوّل مسلحاً حاول اختراق حاجز للجيش قبل عام وثلاثة أشهر في عكار إلى شهيد تقيم له قوى 14 آذار الاحتفال تلو الاحتفال. يغطي رئيس بلدية عرسال والمتهمين بالتنكيل بجثث عناصر الجيش، جاعلاً فك الحصار الأمني عن هؤلاء شغله الشاغل. عضو كتلته النيابية معين المرعبي يشتم يوم الأحد قيادة الجيش وقائده وضباطه وعناصره، ويذهب في اليوم التالي مزهواً إلى اجتماع الكتلة. زميله محمد كبارة، عراب كل زعران باب التبانة ومسلحيها. لا يمكن فريقاً سياسياً أن يؤيد جبهة النصرة في سوريا ويعارض أبناء عقيدتها في لبنان. من كان يحرص على إيصال الطبخ ساخناً إلى مسلحي «فتح الإسلام» في رومية ويعيق محاكمة هؤلاء ريثما يفرون من السجن واحداً تلو الآخر، هو نفسه من يوزع «البطانيات» للمجموعات التكفيرية في سوريا والحليب لحرصه على نموها. تستنفر ماكينة المستقبل لتأنيب وزير الدفاع اللبناني حين يتحدث عن وجود للقاعدة في لبنان ويجنّ جنونها. وحين تربك ارتكابات ما يعرف بقادة محاور طرابلس بعض المستقبليين، يطلّ رجل المستقبل الأول في الشمال اللواء المتقاعد أشرف ريفي ليدافع بحماسة عمّن علّمهم تيار الرئيس رفيق الحريري و«عمّرهم» وكبّرهم. يجد المستقبليون ألف تبرير وتبرير لسحل مواطن سوري فقير في شوارع طرابلس وإذلاله. النشاط المستقبلي الرئيسي المعلن أمس، بعيداً عن صيدا، كان في مستشفى المنية، حيث احتشد نواب المستقبل للاطمئنان على مقاتلين ناجين من معركة القصير. لكن تطبيب هؤلاء وإنعاشهم ليس إلا تفصيلاً في مشروع المستقبل الرئيسي: إسقاط النظام السوري إقليمياً وزجّ حزب الله في اقتتال مذهبيّ داخليّ محلياً.
منطقة الطريق الجديدة التي تعتبر معقل تيار المستقبل البيروتي دلّت أول من أمس بوضوح على حجم التورط المستقبليّ في ظاهرة الأسير. خمسة مربعات من المباني السكنية على غرار مربع عبرا انتصبت هنا حول خمسة جوامع. وفي كل مربع أحمد الأسير واحد أو اثنان. وبدا لاستخبارات الجيش أن شبكة أجهزة تربط بين المربعات الخمسة ولباس شبه موحد ودراجات نارية. ولم يختبئ تيار المستقبل بعباءة غيره كما فعل في صيدا. فرغم تداخل اللهجات اللبنانية بالسورية والفلسطينية في زاروب الباشا والجزار وأبو سهل ومنطقة الأيتام، كان قادة الشارع معروفين لأهالي المنطقة: أحمد أسير زاروب الباشا يدعى محمد الباشا، حتى أسابيع قليلة ماضية كان أحد متحمسي الطريق الجديدة الكثيرين لتيار المستقبل، لكنه اليوم على صورة الأسير ومثاله. أبو خميس البيروتي الصيّاح على مجموعة صغيرة من المقاتلين تتنقل كلما سنح لها التوتر الأمني بعتاد عسكري كامل بين مخيم صبرا والطريق الجديدة يتنقل في الأيام العادية بين مكتبي حركة فتح في المخيم وتيار المستقبل في الطريق الجديدة. أما أسيرا «طلعة الجزار» علي ومحمد عيسى فكانا مستقبليين بامتياز حتى إشهار سلفيتيهما قبل بضعة أشهر. ويقول أحد حزبيي المنطقة المخضرمين في هذا السياق إن المترددين على مركز الاستخبارات السورية سابقاً في البوريفاج ربطوا رقابهم لاحقاً بالفولارات الزرقاء انسجاماً مع الموضة، وتماشياً مع الموضة عصبوا أخيراً رؤوسهم برايات جبهة النصرة. صعوداً إلى «أبو سهل»، تشارك السطوة العسكرية هنا أول من أمس مستقبليّ سلفيّ وسائق الملحق العسكري لإحدى السفارات الخليجية. أما في منطقة أبو شاكر، فيقود المجموعة المسلحة التي تجاوز عديد عناصرها في الاستعراض الليلي الخمسين ابراهيم دياب الذي عمل مرافقاً لبهاء الحريري سنوات، قبل انتقاله إلى فريق المسؤول عن أمن النائب سعد الحريري الشخصي عبد العرب. ويضاف إلى هؤلاء بعض مشايخ إحدى الجمعيات القطرية التمويل وأبو خالد ظاظا الذي يعدّ الذراع البيروتية لأحد أبرز قادة المحاور الطرابلسيين عميد حمود. وكان خمسة من مسؤولي المستقبل الرسميين قد اجتمعوا في الليلة نفسها في مخزن للفحم يملكه أحدهم بالقرب من المدينة الرياضية لمتابعة تحرك المجموعات المقاتلة والاطّلاع على تفاصيلها.
والخلاصة الأمنية لاستنفار الطريق الجديدة، بحسب مصدر مطلع: «كنا بأحمد الأسير واحد في صيدا ونحو ثلاثة في طرابلس، فصرنا بخمسة أحمد الأسير أو ستة في بيروت وحدها». وكما حرص داعمو الأسير على تشكل خط تماس يخيّل لكثيرين أنه سني _ شيعي في صيدا، يسعى هؤلاء إلى صبغ المنطقة الممتدة بين الطريق الجديدة (وصبرا ومخيم شاتيلا) والضاحية بتوتر مماثل. ومقارنة باستنفار المستقبل والمجموعات التكفيرية التي تدور في فلك خطابه السياسي في كل من الطريق الجديدة وطرابلس، تقول المراجع الأمنية إن ما ينتظر بيروت أكبر دون شك مما ينتظر الشمال: التجارب الطرابلسية وتجربة صيدا تؤكد فشل محور المستقبل عبر مجموعاته المسلحة في جر حزب الله إلى مشكلة داخلية. وعليه، لم يبقَ أمام «المستقبل» غير قرع باب الضاحية مباشرة. وتتحدث بعض المصادر الأمنية غير الرسمية في هذا السياق عن امتلاك أسيريي الطريق الجديدة أربعة مدافع هاون عيار 82 وخمسة رشاشات دوشكا.
وكان تيار المستقبل قد تكفل بمنطقة الطريق الجديدة وجوارها أول من أمس، بينما قادت الجماعة الإسلامية التظاهرات الطيارة في منطقتي عائشة بكار وفردان. وما كاد اجتماع فاعليات طرابلس يعقد في مقر الجماعة الإسلامية في منطقة أبي سمرا الطرابلسية، أمس، حتى خرجت التظاهرات المسلحة تجوب شوارع طرابلس، مطلقة الرصاص بجنون، الأمر الذي وصفه أكثر نواب المستقبل رصانة سمير الجسر بـ«مجرد ظهور مسلح محدود، يمثل ردة فعل وليس فعلاً».
يكشف تيار المستقبل عن وجهه. يريد رئيس كتلة المستقبل النائب فؤاد السنيورة من الرأي العام أن يوازن بين شقة صيداوية لا أحد يعلم ماذا يخبئ حزب الله فيها، ومجمع يدخل إليه ويخرج منه يومياً شتى أنواع السلاح لتصيّد عناصر الجيش قبل أي أحد آخر. لا همّ أن يكون سلاح الحزب ثقيلاً ومخفياً وبعيداً عن الزواريب اللبنانية؛ لا يستخدم في التعبئة المذهبية أو فرض الخوات أو سلب مدينة كمدينة طرابلس مدنيّتها، المهم أنه سلاح. انزعوا سلاح حزب الله، ننزع سلاح أحمد الأسير وأمثاله، يقول السنيورة. التبانة مقابل جبل محسن أول من أمس، مجمع الأسير مقابل شقة حزب الله أمس، والطريق الجديدة مقابل الضاحية غداً. ثمة من لا يملّ المعارك الخاسرة. مشكلته الوحيدة أنه لا يلعب بأعصاب اللبنانيين واقتصادهم ودماء جيشهم فحسب، وإنما بأمن أهله واستقرارهم أيضاً.