رغم متابعة خبراء العدو ومؤسساته وقادته لتطوّر قدرات حزب الله في محاولة لاستشراف توجهاته، شكّل الحزب «مفاجأة استراتيجية» أرست معادلات ردع، وعطّلت كثيراً من مفاعيل تطور قدرات جيش العدو والخيارات التي كان يراهن عليها. ولعل أبرز المواقف الرسمية التي أقرت بعامل المفاجأة، كان جواب نائب رئيس الأركان الحالي، اللواء أمير برعام، (عندما كان قائداً للمنطقة الشمالية) على سؤال عما فعله من سبقوه في هذا المنصب للحؤول دون وصول حزب الله إلى ما وصل إليه، بالقول: «لم يروا كينونة الموضوع» («إسرائيل اليوم»/ 17/9/2020). يعني ذلك، أن نسخة حزب الله الحالية، في كل أبعادها، لم تكن ضمن دائرة الاحتمالات، وهي اذا كانت مطروحة على المستوى النظري إلا أنها كانت مستبعدة جداً. كما يكشف ذلك عن حجم الإنجاز الذي حقّقه الحزب في أبعاده الاستخبارية والردعية والاستراتيجية وخطط بناء القوة، وانعكاس كل ذلك على لبنان وفلسطين والساحة الإقليمية.الدراسة التي أجراها الرئيس السابق لقسم الأبحاث في الاستخبارات العسكرية (أمان) العميد ايتي بارون، ونشرتها مجلة «بين هكتفيم» التابعة للجيش الإسرائيلي أخيراً، تُظهر أن المسار التصاعدي لقدرات حزب الله، كماً ونوعاً، كان وفق خطط مدروسة بما يتلاءم مع المتغيرات في إسرائيل، وصولاً إلى تحوّله إلى «جيش غير نظامي» بحسب كبار قادة الجيش. والخلاصة الأهم، أيضاً، أن هذه النتيجة لم تكن أمراً مسلّماً به، بل تحققت بفعل انتصار الحزب في مجالات وساحات عدة، بدءاً من صراع الإرادات بين مؤسسات القرار لدى الطرفين، والمنظومة الاستخبارية على جانبي الجبهة، وسباق الجهوزية. إلا أن الدراسة التي تعكس إلى حد كبير ما يدور في أروقة المؤسستين العسكرية والاستخبارية، تشير إلى أن الخطورة الأشد تكمن في الخشية من تطور حزب الله إلى «جيش عسكري مختلف تماماً عما شهدته إسرائيل حتى الآن»، إذ إن سيطرة الحزب على تكنولوجيا الدقة ستتحول، كما حصل في أماكن أخرى، إلى محرّك تغيير نحو «جيش ذكي يرتكز على الدمج بين الاستخبارات والهجوم المتطور». وسينتج عن ذلك «ابتكار عملياتي»، وأساليب عمل إبداعية تتميز بـ «المرونة والسرعة والفتك».
ومن أبرز المؤشرات التي توقفت عندها الدراسة، أن إيران وحلفاءها «أظهروا قدرة على إصابة أهداف ثابتة ومتحركة بدقة، وعلى مديات بعيدة بشكل يسمح لهم بردّ سريع، ما أدى إلى بلورة قواعد اللعبة، وشكّل مدماكاً في (معادلة) الردع». كذلك لفت بارون إلى «تهديد إضافي حظي ببحث ونقاش واسعيْن نسبياً»، في الساحة الإسرائيلية يتمثل بقدرة حزب الله على توجيه «ضربة دقيقة» عبر شن هجوم ضخم ضد أهداف في إسرائيل، «يؤدي إلى شلل منظوماتي واستراتيجي».
والسيناريو الذي بدأ يحضر بقوة في الوسط الإسرائيلي، وركّز عليه الجزء الأخير من الدراسة، هو أن «الاتجاهات المستقبلية ستشمل أيضاً القدرة على تدمير منهجي للقوات البرية، في الدفاع (لوقف مناورة برية للجيش الإسرائيلي) وفي الهجوم (لتنفيذ مناورة فتاكة داخل الأراضي الإسرائيلية)». وخلصت إلى أن حزب الله بنسخته الجديدة «جيش ذكي» يتبنى مفهوماً جديداً يقوم على «سلب (تدمير) القدرات» يختلف عن مفهوم «النصر بعدم الخسارة» أو «بالنقاط عبر توجيه ضربات مؤلمة». بحسب بارون، الاتجاهات المستقبلية تشير إلى الانتقال من «استراتيجية هجوم إحصائي (غير دقيق)» للمدن والمستوطنات، إلى «هجوم دقيق يستهدف القوات والبنى التحتية» في كيان العدو.

قدرات جراحية دقيقة
تناول بارون السياق العملياتي الذي سبقه تسلح حزب الله بأسلحة دقيقة، وأظهر أنه أتى في مرحلة مفصلية تتطلبها مواءمة المفهوم العملياتي لحزب الله مع تطور الجيش الإسرائيلي. ووضع نجاح إيران في «تطوير تكنولوجيا الدقة لتحسين فعالية المفهوم القتالي الذي خدمها وحلفاءها في العقود الأخيرة»، في إطار «الثورة في الشؤون العسكرية» لمحور المقاومة، رداً على «الثورة في الشؤون العسكرية» للولايات المتحدة وإسرائيل.
في النهاية، أدّى المفهوم العملياتي الذي تبناه الحزب في حينه (إلى جانب قوى المقاومة الأخرى) إلى خروج إسرائيل من «المستنقع اللبناني»، وإلى خطاب «بيت العنكبوت» للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في بنت جبيل. وهذا المفهوم استمر في التطور مع مضي السنوات، وصولاً إلى تبنيه «مدرسة قتالية جديدة» - لا هي تنظيم حرب عصابات ولا هي جيش نظامي - تهدف إلى تعويض التفوق التكنولوجي والعسكري لإسرائيل والمعسكر الغربي. واستندت هذه المدرسة الهجينة إلى استهداف نقاط ضعف إسرائيل عبر التركيز على العنصر البشري، «وصعوبة مواجهة الحرب المستمرة، والقيود النابعة من أولوية تفعيل القوة الجوية نتيجة حاجتها إلى معلومات استخبارية دقيقة (بمعنى الحد من فعالية سلاح الجو عبر الحصانة الاستخبارية)، والردع عن المناورة البرية».
في هذا السياق، يشير بارون إلى أن مفهوم حزب الله العملياتي، رغم تطوره، بقي يستند إلى ثلاثة أسس أساسية:
- تحسين قدرة «الامتصاص» والبقاء، من أجل القتال لمدى أطول، والحفاظ على قوته العسكرية إزاء القدرات الهجومية لإسرائيل.
- تأسيس قدرة ردع موثوقة لمنع مواجهة واسعة الحجم لا يريدها، وأيضاً، لجرّ المواجهة إذا فشل الردع إلى مناطق أكثر راحة له.
- اعتماد استراتيجية الاستنزاف كمفتاح للنصر نتيجة الحساسية الإسرائيلية من الحرب المستمرة والخسائر، والحاجة الإسرائيلية إلى حسم سريع وواضح لا لبس فيه.
ويلفت بارون إلى أن خطط بناء القوة لحزب الله استمرت لتنفيذ هذا المفهوم حتى عام 2006. وفي إطاره، تم «التزوّد المكثّف بأسلحة باليستية، وصواريخ متطورة ضد الدبابات والطائرات، وتبنّي أساليب قتال ترتكز على الإخفاء، والتحصين، وبعثرة القوات المقاتلة، وتخفيف بصمتهم، والكمائن، واستخدام واسع لنطاق تحت أرضي (أنفاق)».
ولأن حرب 2006 شكّلت، بحسب بارون، حدثاً خضع لدراسة جوهرية من الطرفين، فإن إسرائيل اكتشفت صعوبة تنفيذ طموحها التقليدي بتقصير أمد الحرب وتحقيق نصر عسكري واضح، بينما نجح حزب الله في ردع إسرائيل، وعمد بعد الحرب إلى تطوير قدرات جديدة ومتطورة نتيجة استخدام الجيش الإسرائيلي قوة عسكرية هائلة، وتحديداً من قبل سلاح الجو. وبعد الحرب، راكم كميات الصواريخ بشكل جوهري من أجل المحافظة عليها وإغراق منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي بالصواريخ، إضافة إلى تعميق أساليب الاختفاء وتطوير منظومات تحت أرضية.
لكنّ المرحلة الجديدة النوعية، التي توقف عندها بارون، تمثّلت بثلاثة تطورات أساسية: «التزود بتسليح دقيق (صواريخ، مسيّرات ومحلّقات)، والتزود بأسلحة دفاع جوي محسّنة، وبناء قدرة بشرية بحجم واسع نسبياً لاختراق الأراضي الإسرائيلية».
هذا التطور الذي استجدّ على قدرات حزب الله، كماً ونوعاً، أثار أسئلة ملحّة لدى الخبراء والقادة العسكريين حول ما إذا كان يستهدف تحسين نجاعة المفهوم القتالي الأساسي الذي يتبناه الحزب، أم يترافق أيضاً مع تغيير في هذا المفهوم وفي نظرية النصر التي يتبناها؟
في هذا المجال، استند بارون إلى آراء عدد من الجهات المختصة التي رأت أن حزب الله تبنّى مفهوماً جديداً للنصر، يقوم على محاولة «تقصير أمد أي معركة إذا ما نشبت». ولهذه الغاية، تبنّى نهجاً هجومياً وأكثر مبادرة، يهدف إلى «استهداف بؤر التفوق للجيش الإسرائيلي وصدّ أي هجوم»، وبذلك تكون «النيران فقط جزءاً من سلة أدوات واسعة» تشمل «توغلاً برياً وتفعيل مسيّرات وصواريخ جوّالة».
ورأى بعض الضباط في جيش العدو أن حزب الله، على المستوى العملياتي، بنى قدرات تسمح له بشن هجمات صاروخية واسعة وعبر المسيرات «تُهدِّد العمق الاستراتيجي، مترافقة مع اختراق بري»، إضافة إلى امتلاك القدرة على «توجيه ضربة مؤلمة جداً تهدف إلى وقف القتال».
واقترح خبراء آخرون، تحليل المفهوم العملياتي لحزب الله ونظريته للنصر، من زاوية مختلفة بوصفه أنه «دمج بين الدفاع والهجوم»، ويشمل أربعة عناصر: إطلاق صاروخي لاستنزاف الجبهة الداخلية، وشن هجمات دقيقة لتحييد الأداء العملياتي والاستراتيجي في إسرائيل، ومواجهة هجومية مع الدفاع الجوي الإسرائيلي، واستغلال المظلة النارية المكثفة لـ«الانطلاق إلى أراضينا عبر هجمات محدودة، وتقصير أمد المعركة».
الاتجاهات المستقبلية لتطور المقاومة تشير إلى قدرة على تدمير منهجي للقوات البرية الإسرائيلية


النتيجة الشاملة لاجتماع هذه العناصر، بحسب هذه الرؤية، أن حزب الله هَدَفَ إلى امتلاك القدرة على إحداث «شلل منظوماتي» يشكل «ثقلاً» على «منظومة اتخاذ القرار في مقرات القيادة وإفقادها القدرة على مواكبة العمليات».
استناداً إلى هذه الخلاصات، ساد في كيان العدو تقدير أن مفهوم حزب الله عن النصر مرَّ بعملية تحديث أساسي «عبر تحقيق إنجازات عملياتية ملموسة» أو، بعبارة أخرى، عبر «الانتصار بالنقاط»، من خلال خيار هجومي يستند إلى «قدرات نارية متطورة تتسبب بضرر كبير واسع واستراتيجي في البنية التحتية الإسرائيلية... والقدرات الهجومية المتعددة الأبعاد... واحتلال أراض، ودفاع متلائم وديناميكي لسحق تقدم الجيش الإسرائيلي». وتضيف الدراسة أن «هذه الفكرة مرتبطة بسلسلة تطورات عالمية وإقليمية وبشكل أساس بمشاركة حزب الله في معركة سوريا التي سرَّعت مسار التغيّر العسكري وزرعت فيه الشعور بالقدرة العملياتية والاستراتيجية».
في ضوء ما تقدم، يمكن فهم سبب عدم مبادرة إسرائيل خلال السنوات الماضية إلى شن هجوم على لبنان أو توسيع نطاق المعركة بين الحروب بصيغتها العسكرية إلى لبنان وحال دون اتخاذها قراراً بمغامرة عسكرية جديدة على حزب الله.

مناورة فتّاكة
الجزء الأخير من الدراسة يركز على تطور حزب الله على مستوى القدرات. واعتبر بارون أن السيطرة على تكنولوجيا الدقة أنتجت لدى إيران وحلفائها بنية تحتية لثورة إضافية في الشؤون العسكرية، مختلفة عما تطور منذ سنوات التسعينيات. وقارنها بالثورة العسكرية للغرب، مشيراً إلى أنها استندت بشكل أساسي أيضاً إلى تطور دراماتيكي في مجال التكنولوجيا والمعلومات. وعمدت الدراسة إلى استشراف تطور الدمج بين الاستخبارات والهجوم، لدى حزب الله. فألمح بارون إلى وجود نماذج تتمثل بالعمليات التي تشنها إسرائيل في غزة، وأيضاً في الحرب بين أذربيجان وأرمينيا. مشيراً إلى أن التطبيق العملياتي للدمج بين الاستخبارات والهجوم يتجسد في القدرة على استهداف أهداف معينة ذات صلة.
في هذا السياق، توقفت الدراسة عند استهداف شركة «أرامكو» في السعودية، في 14 أيلول 2019، ومهاجمة قاعدة عين الأسد رداً على اغتيال قائد قوة القدس قاسم سليماني، واستهداف سفن إسرائيلية في خليج عمان مرات عدة في السنوات الأخيرة. واعتبر بارون أن هذه الضربات شكّلت «إشارات» في السجال العملياتي حول قواعد اللعبة في مواجهات مختلفة في مقابل السعودية والولايات المتحدة وإسرائيل، مقراً بأن امتلاك القدرة على شن هجمات دقيقة خدم إيران وحلفاءها في الردع الاستراتيجي، انطلاقاً من أن شن مثل هذا الهجوم ضد أهداف مُحددة في إسرائيل يمكن أن يتسبب بأضرار كبيرة ورادعة، وهو ما كان واضحاً في «خطاب الأمونيا» للأمين العام لحزب الله في 16 شباط 2016.

قدرات حزب الله تسمح بشن هجمات تُهدِّد العمق الاستراتيجي مع اختراق بري وتوجيه ضربة مؤلمة جداً لوقف القتال


لكنّ السيناريو الأكثر خطورة، يكمن في ترجمة أكثر تقدماً في تنفيذ الدمج بين الاستخبارات والهجوم، عبر هجمات دقيقة بحجم واسع جداً بهدف إنتاج تأثير منظوماتي واستراتيجي. وهو أمر مختلف عن شن هجمات دقيقة تستهدف مروحة من الأهداف في أوقات مُحدَّدة وقصيرة نسبياً. وقارنت الدراسة المرحلة المتقدمة من القدرة على شن هجمات دقيقة، مع استراتيجية «الصدمة والرعب» التي اعتمدتها الولايات المتحدة في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي. أما النسخة الإسرائيلية لـ«الهجمات الدقيقة» فتمثلت بالاستراتيجية التي تبناها كوخافي بعد توليه منصبه، وتقوم على استهداف «سريع وجوهري للقدرات والفعالية العملياتية للعدو، لإجباره على الموافقة على إنهاء سريع للقتال، عبر استهداف سريع ومفاجئ لقدرات مفتاحية تربك أداءه... وتضع علامات استفهام جوهرية حول قدرته على تنفيذ فكرته العملياتية ومفهومه للنصر».
في المقابل، اعتبرت الدراسة أن الترجمة العملية لتوجيه ضربات دقيقة إلى العمق الإسرائيلي تتمثّل باستهداف «منظومات الدفاع الجوي، والاستخبارات، والقيادة والسيطرة، ومنشآت التجنيد، والمطارات ومحطات الطاقة، والمرافئ والسفن، ومنظومات الكهرباء والوقود ومنشآت تحلية المياه...».
اتجاه آخر لتنفيذ الدمج بين الاستخبارات والهجوم، يتصل بفكرة توغل قوات حزب الله داخل إسرائيل بحجم واسع نسبياً وهو أمر مختلف عن التسلل لتنفيذ عمليات، مع الإشارة إلى مراكمة خبرة ومعرفة بالسيطرة على مناطق وتطهيرها من العدو والاحتفاظ بها. وخلصت الدراسة إلى أن حزب الله يتطور من «جيش غير نظامي» (مع وصْمه بالإرهاب)، إلى «جيش ذكي»، لديه قدرة تنفيذ مناورة فتّاكة داخل الأراضي الإسرائيلية.