«لبنان على مفترق طرق خطير». هذه العبارة التي وردت في البيان الختامي لبعثة صندوق النقد الدولي التي اختتمت زيارتها للبنان، أمس، قيلت مراراً وتكراراً في السنوات الثلاث الأخيرة. ومن السخرية أن تردادها اليوم من ممثلي الصندوق يسبغ عليها الصدقيّة. فكل مفترق في السنوات الأربع الماضية، كان أخطر من الذي سبقه، فيما عمدت قوى السلطة إلى تجاهل كل التحذيرات. هذا تحديداً، ما يجعل الصندوق بوصفه ديكتاتوراً مالياً يُخضِع الدول حول العالم، واقفاً على يسار السلطة في لبنان، أو أقلّ إجراماً منها. إنما لا شيء يبشّر بأن لكلام الصندوق جدوى ما. فرئيس الحكومة نجيب ميقاتي يتحدّث عن ثلاثة احتمالات، من بينها واحدٌ يسري منذ فترة طويلة، وهو: «لا تطبيق للاتفاق مع صندوق النقد الدولي». أما ممثلو الصندوق، فلم يسعهم سوى إعادة وصف واقع الانهيار في لبنان عن الركود المستمر، والهجرة الكبيرة، والفقر التاريخي. كذلك، كرّروا وصفتهم التي تمزج الإصلاحات بالتقشّف والخصخصة ونبذ الرذائل التي يتعمّد مصرف لبنان وقوى السلطة القيام بها.
(مروان بوحيدر)

بالنسبة إلى الصندوق، طريق النهوض غير ممكن من دون مصارف، وهذا يتطلّب الاعتراف بالخسائر ومعالجتها عبر «تسلسل هرمي» يقضي بذوبان الرساميل أولاً، ثم يتضمّن حماية صغار المودعين... وفي ما خصّ المالية العامة، فالطريق أيضاً واضح: يجب أن تكون الخزينة اللبنانية قادرة على خدمة الدين مستقبلاً بعد النهوض. أي أن تواصل أسر لبنان الفناء من أجل سداد هذا الدين. إذاً، قدَر المقيمين في لبنان بات معروفاً؛ فإما أن يستمروا بكونهم فريسة لقوى السلطة، أو أن يتحوّلوا إلى ضحية جديدة لصندوق النقد الدولي. حصار كهذا يختلف عن الحصار الذي تمارسه الإدارة الأميركية في ممارسة العقوبات ومنع إقراض لبنان بهدف تشغيل خدمات عامة.
هذه الخلاصة الوحيدة التي يمكن استنتاجها من بعثة صندوق النقد الدولي إلى لبنان، التي ختمت أمس زيارتها له بمؤتمر صحافي، اتّسم بالكلمات الدبلوماسية الباردة رغم سلبيّتها، وبالتحذير الذي سبق أن ردّده ممثلو الصندوق على مسامع رئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، وفي لقاءاتهم مع ممثلي الكتل النيابية وهيئات رسمية ومدنية واقتصادية.
وبحسب مصادر مطّلعة، فإن ميقاتي والنواب بدوا مستائين من كلام ممثلي الصندوق المتعلق بتخلّف لبنان عن تطبيق الإصلاحات المطلوبة وتعمّد الحكومة التباطؤ في تنفيذ الشروط المسبقة. وتضيف المصادر، انه لم يكن بإمكان ميقاتي وبري وسائر النواب والمسؤولين تقديم إجابة واضحة عن المعوّقات التي حالت دون إقرار الخطوات الواردة في الاتفاق المبدئي مع الصندوق وبدء تطبيقها. وخلال لقائهم رئيسَي لجنتَي المال والموازنة إبراهيم كنعان، والإدارة والعدل جورج عدوان، قال ممثلو الصندوق كلاماً سياسياً عن «حكومة معطّلة لعدم تجانس أعضائها، وبالتالي هي غير قادرة على إعداد خريطة طريق للإنقاذ المالي والاقتصادي، فيما المجلس النيابي معطّل أيضاً وغير قادر على إقرار الإصلاحات» وفق المصادر. لذا، شدّد ممثلو الصندوق على ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية، يليه تشكيل حكومة متجانسة، وتعيين حاكم لمصرف لبنان فور انتهاء ولاية رياض سلامة.
وتقول المصادر إن الوفد بدا حذراً من تفاقم الوضع في ظل «عدم تسجيل أي تبدّل في المسار الحكومي أو في السياسة المالية المعتمدة، ما يوحي بأن ثمة مسعى للتنصل من برنامج صندوق النقد» بحسب ما نقلت المصادر عن ممثلي الصندوق. وهذا التنصّل ورد تلميحاً على لسان ميقاتي بعد لقائه رئيس مجلس النواب نبيه بري، أمس، مشيراً إلى 3 خيارات: «الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، الاتفاق مع بعضنا البعض، أو ألّا نتفق بتاتاً... وهذا ما نقوم به».
في أيلول المقبل قد لا يكون لدى لبنان عملات أجنبية لتبديدها


وكان واضحاً أن ممثلي صندوق النقد الدولي يعترضون بشدّة على النسخة المطروحة من مشروع قانون الكابيتال كونترول. فهم سبق أن أرسلوا ملاحظاتهم إلى نائب رئيس مجلس النواب الياس بوصعب عبر لائحة طويلة تنقض كل ما تم تعديله في جلسات اللجان المشتركة برئاسة بوصعب. كذلك، أوضح ممثلو الصندوق أنهم غير راضين عن التعديلات على قانون السرية المصرفية، وقد علّق رئيس البعثة في إحدى الجلسات قائلاً: «ينبغي على الجهات المعنية الاطلاع على البيانات المتعلقة بمعاملات الأفراد وودائعهم المصرفية»، غامزاً مما قام به ميقاتي لجهة تعطيل قرارات قضائية متعلقة برفع السرية المصرفية عن مصرفيين ونافذين.
ممثلو الصندوق أشاروا في بعض اللقاءات إلى أن كل ما يحصل يقود إلى الاستنتاج بأنه أثناء زيارتهم المقبلة في أيلول المقبل: «لن يكون لديكم أيّ أموال لتبديدها. أنتم الآن اقتربتم من مرحلة الفوضى الاجتماعية. الآن نحن قلقون من ألّا تستطيعوا تمديد اتفاقات دعم رواتب القوى العسكرية والأمنية». فهم، لا يصدّقون «التعاطي المفرط القساوة من قبل القوى السياسية»، لافتين إلى أن المشكلة «تكمن في أن هذه الطبقة السياسية مختارة من قبل الشعب. وهذه الطبقة لا تستيطع مكاشفة شعبها بأنه لم تعد هناك ودائع. إذ لا يتم البدء بخطّة إعادة الودائع إلا بعد انتهاء برنامج لبنان مع الصندوق، ونحن لا نريد أن يكون ضمن الاتفاق أيّ شيء له علاقة بتوزيع الخسائر وردّ الودائع».

لبنان كما يراه الصندوق
بمعزل عن كل الأرقام عن تراجع الاحتياطات بالعملات الأجنبية، وعن تقلص الاقتصاد، وانهيار المالية العامة على جهتَي الإيرادات والنففقات، وتعدّدية أسعار الصرف، والمضاربات السارية بفعل تعاميم مصرف لبنان، وانتشار مصارف الزومبي، وسائر ما يمكن أن يقال عن الأزمة في لبنان، إلا أن بعض ممّا ورد في البيان الختامي لبعثة صندوق النقد الدولي يختصر المشهد كلّه:
- «لبنان على مفترق طرق خطير. ومن دون إصلاحات سريعة سيكون غارقاً في أزمة لا تنتهي أبداً. سيبقى الفقر والبطالة مرتفعين، وستتدهور أكثر قدرات الاقتصاد. استمرار الوضع الراهن من شأنه أن يقوّض الثقة في مؤسّسات الدولة وسيؤدّي التأخير الإضافي في تنفيذ الإصلاحات إلى إبقاء الاقتصاد في حالة ركود، مع عواقب لا رجعة فيها على الدولة بأكملها، وخصوصاً على الأُسر ذات الدخل المنخفض إلى المتوسط».
- «لأكثر من ثلاث سنوات، كان لبنان يواجه أزمة غير مسبوقة، مع اضطراب اقتصادي حاد، وانخفاض كبير في قيمة الليرة اللبنانية وتضخّم ثلاثي الأرقام كان له تأثير مذهل على حياة الناس وسبل عيشهم. ارتفعت معدلات البطالة والهجرة بشكل حادّ، ووصل الفقر إلى مستويات مرتفعة تاريخياً. وتعطَّل توفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والصحة العامة والتعليم العام بشدّة، وانهارت برامج الدعم الاجتماعي الأساسية والاستثمارات العامة. وعلى نطاق أوسع، أُضعفت قدرات الإدارة العامة بشكل خطير. المصارف غير قادرة على تمويل الاقتصاد، وغالباً لا يمكن للعملاء الوصول إلى ودائعهم في المصارف. وجود عدد كبير من اللاجئين يفاقم التحديات التي يواجهها لبنان. ورغم خطورة الوضع الذي يستدعي اتخاذ إجراءات فورية وحاسمة، إلا أن التقدّم في تنفيذ حزمة الإصلاحات الاقتصادية الشاملة المنصوص عليها في الاتفاقية على مستوى الموظفين كان محدوداً. هذا التقاعس يضرّ السكان ذوي الدخل المنخفض إلى المتوسط، ويقوّض الإمكانات الاقتصادية طويلة المدى للبنان. يجب على الحكومة والبرلمان والبنك المركزي العمل معاً وبسرعة وحسم لمعالجة نقاط الضعف المؤسّسيّة والهيكلية طويلة الأمد لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد وتمهيد الطريق لتحقيق انتعاش قوي ومستدام».
- ستؤدي حالة عدم اليقين المرتفعة إلى إضعاف الوضع الخارجي بشكل أكبر، وسيستمر مصرف لبنان في خسارة الاحتياطيات الدولية النادرة. سيظلّ انخفاض سعر الصرف والتضخّم المتصاعد بلا هوادة، ما يؤدي إلى تسريع الدولرة النقدية المرتفعة بالفعل للاقتصاد. سوف يزداد الطابع غير الرسمي للاقتصاد، ما يقلّل من نطاق الضرائب ويزيد من انخفاض الإنفاق في الميزانية، مع زيادة خطر ترسّخ الأنشطة غير المشروعة في الاقتصاد. ومن دون الاعتراف بالفجوة المالية الكبيرة في القطاع المصرفي ومعالجتها بصدقية، لن تتمكن المصارف من تقديم ائتمان ذي مغزى لدعم الاقتصاد، وسيواصل صغار المودعين تكبّد خسائر كبيرة في عمليات سحب العملات الأجنبية الخاصة بهم، بينما الودائع المتوسّطة إلى الكبيرة ستبقى محجوزة إلى أجل غير مسمى. سوف تتسارع الهجرة، ولا سيما العمال المهرة، ما يقوّض آفاق النمو في المستقبل بشكل أكبر.
طريق الصندوق البديل
يقول صندوق النقد الدولي إن هناك طريقاً بديلاً يؤدي إلى الاستقرار والنموّ، مشيراً إلى لائحة من الخطوات التي سبق أن طلبها الصندوق من لبنان كشروط مسبقة لتنفيذ الاتفاق النهائي معه. ويمكن اختصار الطريق البديل على الشكل الآتي:
- يطلب الصندوق أن يكون لدى لبنان «استراتيجية مالية متوسطة الأجل لاستعادة القدرة على تحمّل الديون». برأيه، يبدأ ذلك في إقرار موازنة 2023 المبنية على سعر صرف موحّد لأغراض الجمارك والضرائب، وأن تتضمن تعديلات لـ«تعبئة الإيرادات الضريبية» وخطوات نحو «استعادة الإدارة العامة»، فضلاً عن «التخلّص من خسائر الشركات المملوكة للدولة، والتوقف التدريجي من تحويلات الخزينة إلى الكهرباء. ويذكّر أيضاً بوجوب إعادة هيكلة نظام التقاعد.
- إعادة هيكلة النظام المالي «وهذا يتطلب الاعتراف والمعالجة المسبقة للخسائر الكبيرة التي يتكبّدها البنك المركزي والبنوك التجارية، واحترام التسلسل الهرمي للمطالبات، وحماية صغار المودعين، والحدّ من اللجوء إلى القطاع العام... يجب إعادة هيكلة المصارف القادرة على الاستمرار ورسملتها بموجب خطّة زمنية محددة، ويجب على المصارف غير القادرة على البقاء الخروج من السوق.
- تعديل قانون السرية المصرفية لمعالجة نقاط الضعف الحرجة البارزة، رغم التحسينات المهمة في الإصلاح الأخير.
- توحيد أسعار الصرف لإزالة التشوّهات الضارّة، والقضاء على فُرص «البحث عن الريع»، وتقليل الضغوط على احتياطات البنك المركزي من العملات الأجنبية «وتمهيد الطريق لسعر صرف تحدّده السوق». وهذه العملية يجب أن تترافق مع ضوابط مؤقتة على رأس المال للمساعدة في حماية موارد العملات الأجنبية المحدودة في النظام المالي اللازم لضمان حلّ عادل للمودعين.
- يجب حظر تمويل البنك المركزي للحكومة بشكل صارم.