بعد طعن النيابة العامة المالية، فَسخت الهيئة الاتهامية في بيروت قرار قاضي التحقيق الصادر في آب 2020 بمنع المحاكمة عن مدير الخزينة في مصرف «سوسيتيه جنرال» كريم الخوري بسبب تناقض إفادته بشأن شراء الدولارات من السوق وشحنها خارج لبنان. وكشف تقرير خبراء ماليين كلّفهم رئيس الهيئة الاتهامية القاضي ماهر شعيتو أنّ «سوسيتيه جنرال»، بقرار من رئيس مجلس إدارته أنطون صحناوي، بدأ بشراء الدولارات من السوق قبل أكثر من شهرين من حراك 17 تشرين الأول عام 2019. وأظهرت التحقيقات أنّ المصرف، بقرارات صادرة عن صحناوي والمدير العام المساعد جورج صغبيني، اشترى دولارات أميركية بأسعار تفوق سعر السوق ورفض إعطاء إيصالات مقابل عملياته. ويشكّل تقرير الخبراء والتحقيقات التي أُجريت بمثابة دليل رسمي يؤكد أنّ بعض المصارف بدأت المضاربة على الليرة اللبنانية قبل بدء التظاهرات الشعبية، وعمدت إلى شراء ملايين الدولارات من السوق وشحنها إلى الخارج عبر شركة ميشال مكتّف، للتهرب من تحمّل الخسائر.وأوضح القرار الاتهامي والتحقيقات الأولية أنّ SGBL قدّم معلومات كاذبة إلى مصرف لبنان عندما طلب كسر وديعة بقيمة 254 مليار ليرة كانت مجمدة حتى تاريخ 31 تشرين الأول عام 2047، إضافة إلى توظيفه 60 مليار ليرة مع المصرف المركزي على مدى 28 سنة تنتهي عام 2047. وبرر المصرف طلبه بنقص سيولته بالليرة اللبنانية، وأكّد في كتابه إلى مصرف لبنان التزامه بإبقاء هذه السيولة في حسابه الجاري وعدم استعمالها لأيّ غاية أخرى. كما تعهّد بعدم شراء دولارات من قسم عمليات القطع، وهو ما بيّنت إفادة مدير الخزانة في المصرف وتقرير الخبراء كذبه.
وقد فُتح هذا الملف بعد تحقيق بدأته عام 2020 مفرزة الضاحية القضائية بإمرة الرائد علي الجفّال بموجب إشارة من النيابة العامة المالية. وأُوقف يومها عدد من كبار الصرّافين، وكريم الخوري من سوسيتيه جنرال، على خلفية جمعهم كميات كبيرة من الدولارات، ما تسبّب بانخفاض سعر صرف الليرة. وكان من شأن التحقيق أن يوقف بقية المتورطين، غير أن التدخلات أدت إلى الاقتصار على من تم توقيفهم، قبل دفن الملف لاحقاً.
تبدأ وقائع القرار الاتهامي من إفادة كريم الخوري بأنّه اشترى ملايين الدولارات من كل من الصرافين: وليد المصري والياس سرور ورامز مكتّف بهدف تأمين حاجة الزبائن! وأكد أنّ مجلس الإدارة كان يجتمع برئاسة أنطون صحناوي ويتم إبلاغه للاتصال بالصرّافين لشراء الدولارات. وأشار إلى أنّه شحن نحو 15 مليون دولار إلى الخارج بواسطة شركة مكتّف. غير أنّه، في إفادة ثانية، أشار إلى أنّه كان يأخذ موافقة مديره جورج صغبيني على السعر المحدد لشراء الدولار من الصرّافين، مدّعياً أنّ الهدف من عمليات شراء الدولارات كان خدمة الزبائن وتعبئة ماكينات ATM، نافياً شحن أيّ أموال إلى الخارج. وبرّر ما ذكره في إفادته السابقة حول شحن الدولارات بوجود التزامات خارجية من اعتمادات وإيداعات، مع العلم أنّ المصرف المذكور كان يتأخّر في دفع رواتب الموظفين الرسميين لأيام لاستخدام السيولة في شراء الدولارات. وأفاد الخوري بأنّه بدأ بشراء الدولارات من السوق بعد إقفال المصارف في بداية الأزمة، أي خلال تشرين الثاني. إلا أنّ تقرير الخبيرَين نجيب عبد النور وبشارة أيوب بيّن أن شراء الدولارات بدأ قبل ثلاثة أشهر، في 20 آب 2019.
قبل الأزمة، كسر المصرف وديعة ضخمة مجمّدة في مصرف لبنان واشترى دولارات بدءاً من آب 2019


ورأت الهيئة الاتهامية أنّ عناصر جرم المادة 335 من قانون العقوبات لم تنطبق على الأفعال المنسوبة إلى المدّعى عليهم، على اعتبار أنّها تنصّ على أنّه «إذا أقدم شخصان أو أكثر على تأليف جمعية أو إجراء اتفاق خطّي أو شفهي بقصد ارتكاب جنايات على الناس أو الأموال أو النيل من سلطة الدولة أو هيبتها أو التعرّض لمؤسساتها المدنية أو العسكرية أو المالية أو الاقتصادية». وأشارت الهيئة إلى أنّ «أفعال هذه المادة غير منطبقة، إنما الأفعال النقدية المالية التي تمسّ هيبة الدولة المالية وسلامة نقدها». وأضافت «من الثابت في التحقيقات وتقرير الخبيرين المكلّفين واعترافات المدّعى عليهم أنّ كريم الخوري عمد ابتداءً من آب 2019، بتكليف من المدعى عليه مصرف سوسيتيه جنرال، إلى شراء دولارات من السوق». وأكّدت أنّ الخوري أدلى بإفادات متناقضة حول تاريخ بدء شراء الدولارات من السوق ومصيرها، فقد أفاد بأنّه بدأ بذلك بعد بداية الأزمة في 17 تشرين الأول 2019 وأن قسماً منها شحن إلى الخارج، ثم غيّر إفادته مدّعياً أن المبالغ المشتراة بقيت في السوق اللبنانية واستُعملت لتأمين حاجات الزبائن، وأنّ ما تم شحنه كان مبالغ أخرى حصل عليها المصرف من الزبائن مباشرة، وحوّلها بناءً على طلبهم في إطار تسديد تكاليف دراسية في الخارج. ورأت الهيئة أنّه «في ظل هذا التناقض وعدم تبيان المصرف لمصير الدولارات المشتراة، من شأنه توفير القناعة بأنّ المبالغ جرى شحنها إلى الخارج لغايات لم يُفصح عنها ولم يتمّ تبريرها»، وأنّ «الفعل الحاصل يعادل الفعل الجرمي الذي ينطبق عليه وصف المادة ٢٩٧ عقوبات: «كل لبناني يذيع في الخارج وهو على بيّنة من الأمر أنباءً كاذبة أو مبالغاً فيها من شأنها أن تنال من هيبة الدولة وإمكاناتها المالية يعاقب بالحبس…». لذلك، رأت الهيئة أنّ «الإذاعة حصلت من خلال أفعال المصرف عبر شراء الدولار من السوق بكميات كبيرة وشحنها إلى الخارج بتاريخ سابق لبدء الأزمة، ما ساهم في زعزعة مكانة الدولة المالية نتيجة حال نقدها وإخراج العملة الأجنبية من أسواقها بما يؤشر إلى عدم الثقة بعملتها الوطنية».
اللافت أنّ استئناف النيابة العامة المالية الذي تناول قرار قاضي التحقيق بشأن المدّعى عليهم، مصرف سوسيتيه جنرال وأنطون صحناوي وجورج صغبيني، شمل فقط جرم المادة ٧٧٠ من قانون العقوبات، ولم يأت على تحقق باقي الجرائم، وتحديداً الاشتراك في أفعال مدير الخزينة في المصرف، ولا سيما أنّ الخوري لا يمكنه أن يتّخذ قراراً بكسر وديعة كبيرة مجمّدة لـ ٢٨ سنة في المصرف المركزي ويشتري ملايين الدولارات من دون موافقة رئيس مجلس الإدارة أو المدير العام. وقد أشارت الهيئة الاتهامية إلى أنّ المنطق القانوني السليم لا يُجيز مساءلة شخص طبيعي (كريم الخوري)، ظهّر جرم المادة ٢٩٧ من قانون العقوبات إلى الوجود، من دون مساءلة الشخص المعنوي الذي تم هذا الفعل لمصلحته وباسمه وبأدواته أي مصرف SGBL، ومن دون مساءلة من ساهم في اتخاذ القرار بهذا الخصوص، أي أنطون صحناوي. ورأت الهيئة الاتهامية أنّ واقع الملف لناحية منع المحاكمة عن صحناوي وصغبيني وSGBL بجرمَي المادتين ٢٩٧ و٣١٩ من قانون العقوبات، وعدم شمول النيابة العامة هذين الجرمين، حال قانوناً دون تمكّن الهيئة من البحث فيهما. والأمر نفسه ينطبق على جرم تبييض الأموال الذي أمسى خارج البحث لعدم شموله باستئناف النيابة العامة المالية.