أطلقت بعض وسائل الإعلام قبل أيام اسم «السيف المصلت» على العملية العسكرية التي يخوضها الجيش ضد المجموعات الإرهابية التي احتلت بلدة عرسال، واعتدت على مراكزه. الجيش لم يتبنّ التسمية. لكن يبدو أن السلطة السياسية أخذت بها، ومنحتها للمسلحين الذين ينتمي معظمهم إلى «تنظيم القاعدة» في سوريا («جبهة النصرة») و«داعش». فهؤلاء المسلحون صاروا، بعد خروجهم من عرسال إلى جرودها، سيفاً مصلتاً على البلدة، يهددون بالعودة إليها متى شاؤوا.
بيان «جبهة النصرة» في القلمون، الذي صاغه أميرها «أبو مالك التلّيّ»، أراد القول إن «الأمر لي» في جرود عرسال. حكم بأن اجتياح عرسال كان خطأً، لا لأنه ضد المس بالسيادة اللبنانية، بل لأن البلدة البقاعية شريان حيوي لجماعته والجماعات الأخرى. ولا غرابة في ثقة «النصرة» بنفسها. فأداء السلطة السياسية في الأيام الماضية أدى إلى تثبيت الوقائع الآتية:
ـــ مُنِع الجيش من القتال، إلا لاستعادة مواقعه التي احتلها المسلحون. دفعت المؤسسة العسكرية ثمناً كبيراً نتيجة الاعتداء عليها، وخلال القتال لاستعادة المواقع والحواجز المحتلة. لكن الثمن الأكبر كان في صورتها ودورها الذي كبّلته السلطة السياسية، نتيجة المفاوضات التي أدارها رئيس الحكومة تمام سلام وفريق تيار المستقبل في الحكومة، بواسطة هيئة العلماء المسلمين. صحيح أن «الزجل السياسي» الداعم للجيش تُرجم بـ«مكرمة» سعودية قدرها مليار دولار لدعم جهود مكافحة الإرهاب. لكن هذا الدعم بدا مشروطاً بعدم استخدامه. وتحوّلت عرسال إلى منطقة خارج السيادة اللبنانية، وبات مسلحو «النصرة» و«داعش» قادرين على التهديد بدخولها ساعة شاؤوا. بيان «النصرة» كان واضحاً لناحية منح «الجبهة» نفسها دور «حامي عرسال»، وعلى واقع البلدة كمحمية لـ«الثورة» السورية.

برّي: الجيش يرفض المقايضة إلا أنني أخشى أن نكون أمام أعزاز أخرى


طالب المسلحون بعدم دخول الجيش عرسال وبأن يشاركوا في إدارة البلدة

ـــ تشير المعلومات الأمنية، وبيان «النصرة» وما تبلّغه الوسطاء من الخاطفين، إلى أن جنود الجيش وأفراد الأمن الداخلي المخطوفين باتوا رهائن بيد «النصرة» و«داعش»، بهدف مبادلتهم بموقوفين ومحكومين بتهم الإرهاب في السجون اللبنانية والسورية. الأمل الوحيد الذي يعاكس هذا الواقع لا يصدر عن جهد تبذله الحكومة اللبنانية ولا وسطاؤها، بل نتيجة رغبة الشيخ العرسالي مصطفى الحجيري (أبو طاقية) بتسوية أوضاعه في لبنان، كونه مطلوباً للقضاء بتهم عدة. وهذا الأمر يقتصر في أحسن الأحوال على استعادة الدركيين من دون عسكريي الجيش (راجع الإطار أدناه).
ـــ تركت عملية التفاوض جرحاً عميقاً في صورة المؤسسة العسكرية، لا أمام الجمهور، بل أمام ضباط وجنود كانوا يعبّرون، بوسائط مختلفة، عن تململهم مما جرى. وليس الحديث هنا عن متعطشين لتدمير بلدة لبنانية، ولا عن طالبي ثأر، بل إن جل ما يقوله هؤلاء يتمحور حول «الأداء السيئ للسلطة، والذي أدى إلى خروج المسلحين بأمان، ومعهم الجنود والعسكريون المخطوفون». لعل مداخلة شقيق المقدم الشهيد داني حرب عبر برنامج «كلام الناس» على قناة «أل بي سي آي» أمس، تلخّص في غضبها من السلطة السياسية ـــ وتيار المستقبل تحديداً ـــ ما يدور على ألسنة عسكريين وضباط كثيرين. واللافت أن أمنيين من مختلف الأجهزة الأمنية كانوا يتوقعون عدم الإفراج عن العسكريين. لكن السلطة السياسية أصرّت على المضي بعملية التفاوض من دون تعديل، ومن دون ضغط على الخاطفين. وطوال مرحلة التفاوض، قبلت السلطة (ضمنياً) والوسطاء بأن أي عمل عسكري يقوم به الجيش هو فعل اعتداء على أهالي عرسال.
ـــ إضافة إلى الحمل الثقيل الذي حملته المؤسسة العسكرية، دفع أهل عرسال ثمناً باهظاً. توترت علاقتهم بالنازحين السوريين في بلدتهم، وبالجيش نتيجة استشهاد مدنيين بقصف وإطلاق نار يتهمون الجيش بالوقوف خلفه، وبتيار المستقبل. رفضهم أمس قبول المساعدات التي أرسلها لهم الرئيس سعد الحريري أبلغ تعبير عن موقفهم.
على المستوى السياسي، بات واضحاً لدى مختلف القوى أن التسوية التي عقدت مع المسلحين هي لمصلحتهم. وحده تيار المستقبل يقول إنه لم يكن بالإمكان أفضل مما كان، بسبب وجود أكثر من 100 ألف مدني في عرسال. ويؤكد أكثر من مسؤول سياسي أن عدداً من المسلحين لا يزال في عرسال، لكن من دون حمل سلاح. ويرون أن السلطة التي كبّلت الجيش سابقاً ومنعته من القتال، ستكبّله مجدداً، وتمنعه من الضغط لاستعادة جنوده. وزير بارز كان يتابع تفاصيل المفاوضات قال لـ«الأخبار» إن المسلحين سيبقون في الجرود، وليس هناك إمكانية لدى الجيش للحاق بهم في تلك المنطقة الشاسعة. ثمة إقرار بعجز الدولة أمام المسلحين. وفي جلسة مجلس الوزراء، أمس، التي حضرها قائد الجيش، العماد جان قهوجي، قال الأخير إن الجيش «مستعد لتنفيذ عملية عسكرية في أقل من 24 ساعة إذا نال الضوء الأخضر». وتساءلت مصادر وزارية بارزة: «إذا كان البيان الذي أصدرته الحكومة واضحاً في وضعه القرار بيد الجيش والوقوف وراءه، فلماذا يطلب قهوجي غطاءً سياسياً؟». ورد المصدر الوزاري مؤكداً وجود «ضغط من تيار المستقبل عبر رئيس الحكومة تمام سلام، بمعزل عن باقي الوزراء، لمنع الجيش من الحسم في عرسال». وبحسب مصادر وزارية، فإن المسلحين طلبوا أمس ان يتضمن أي اتفاق نهائي شرطاً بعدم دخول الجيش بلدة عرسال، وبأن تكون البلدة خاضعة لإدارة مشتركة لبنانية ـــ سورية. إلا ان رئيس الحكومة، وعلى ذمة اكثر من وزير، رفض هذين الشرطين. لكن لماذا لم يدخل الجيش عرسال طوال يوم أمس؟ تجيب المصادر: «كانت هناك خشية من وجود خلايا نائمة تفتعل اشتباكات مع الجيش بوجود المدنيين. سيدخل الجيش متى يقرر ذلك».

بري: لا للمقايضة بسجناء رومية

وعلق رئيس مجلس النواب نبيه بري مساء أمس أمام زواره على التطورات قائلاً: «ما قبل عرسال ليس كما بعدها. هناك نقطة مهمة للغاية هي محاولة عودة 1800 نازح سوري الى المناطق الآمنة داخل الأراضي السورية، وهو ما كنا ندعو إليه وإلى الاستمرار في ذلك بالتنسيق مع السلطات السورية، وخصوصاً أنه بُحّ الصوت بالمطالبة بعلاقات دبلوماسية بين لبنان وسوريا، فلنترجم ذلك الآن. من الآن فصاعداً، لا بد من التعامل مع المخيمات السورية والنزوح العشوائي بطريقة مختلفة، وعدم التساهل في هذا الموضوع بعدما تبينت علاقة مخيمات النزوح بالإرهابيين». لكن رئيس المجلس لاحظ أن المشكلة «لم تنته بعد، ويجب التحوط لأنه يمكن أن يتكرر ما حدث في أي لحظة في عرسال وخارجها بعد الغدر الذي لحق بالجيش. على الدولة أن تفتح عينيها جيداً على عرسال وأن ينتشر الجيش داخل البلدة، ويكون مسؤولاً وحيداً عن الأمن والمساعدات والإغاثة، وخصوصاً بعدما تبين أن عدداً من أبنائها تعاون مع المسلحين، والقانون يجب أن يأخذ مجراه في حقهم ولا غطاء لأحد».
وسئل بري بعد تبلغه أن وفد هيئة العلماء المسلمين فقد الاتصال بالمسلحين والأسرى العسكريين لديهم، هل يخشى أن يطالب المسلحون بمقايضة العسكريين بسجناء رومية كما طالبوا بذلك مراراً، فرد: «نحن ضد أي شكل من أشكال هذا التفاوض والمقايضة، ولن نفتح هذا الباب وخصوصاً مع سجناء رومية. لم نقايض في ملف مخطوفي أعزاز ولم نرضخ، ولن نفعل ذلك مع العسكريين. الجيش نفسه يرفض المقايضة. إلا أنني أخشى أن نكون أمام أعزاز أخرى».
وأبدى ارتياحه لقرار مجلس الوزراء فتح باب التطوع في الأسلاك العسكرية، وقال: «هذا ما طالبنا به مراراً، لكن المستغرب أن لبنان لم يتلقّ حتى الساعة أي طلقة في نطاق هبة الـ 3 مليارات دولار التي قدمتها السعودية، رغم انقضاء أشهر على الهبة والاجتماعات التي عقدت في إطارها، فكيف بالحري في ظل هذه الأوضاع، علماً بأن قيادة الجيش حددت لوائح الأسلحة التي تحتاج إليها. لكن ما أخشاه أن يكون هناك من يضعنا تحت السقف الإسرائيلي، بمعنى عدم تزويد الجيش بأسلحة متطورة خشية استخدامها ضد إسرائيل، أو لأن هناك مقاومة لإسرائيل في لبنان». أضاف: «أعتقد أن هبة مليار دولار التي قدمها في اليومين الأخيرين الملك عبد الله الى الجيش هي استدراك المملكة بأن الهبة الأولى لم ينفذ منها شيء بعد. قلت ذلك للسفير السعودي عندما زارني وطلبت منه السعي لدى فرنسا لتحريك المساعدات. قلت في الإطار نفسه الكلام ذاته للسفير الأميركي إن بلاده فتحت عنابرها للإسرائيليين خلال عدوانها على غزة، فلا بد من أن لديكم شيئاً تخبئونه لنا».
وكان عضو هيئة العلماء المسلمين الشيخ محيي الدين نسبيه قد تحدّث بعد ظهر أمس عن انقطاع الاتصال بخاطفي العسكريين، موضحاً أن «التفاوض يمكن أن يشمل المسجونين في رومية إن وافق الجيش على ذلك». أما جبهة النصرة، التي قالت في بيانها إنها دخلت عرسال للدفاع عن أهلها، فلفتت إلى أن الجهة التي قررت اقتحام البلدة احتجاجاً على توقيف عماد جمعة السبت الماضي، تخضع لمحاكمة شرعية. وعن العسكريين المخطوفين، قال البيان: «أعطيناهم ستة أسرى كبادرة حسن نيّة، وباقي الأسرى لهم وضع خاص سنبيّنه لاحقاً إن شاء الله».