في مثل هذه الأيام، عام 2013، انتخب البابا فرنسيس. وفي مثل هذه الأيام، عام 2011، انتخب البطريرك بشارة بطرس الراعي.يخصص الإعلام الغربي المهتمّ بشؤون الكنيسة الكاثوليكية، منذ أيام، حيّزاً مهماً لمراجعة ما حققه البابا فرنسيس وما عجز عنه خلال حبرية حافلة بمحاولات التجديد الداخلية، ومعالجة ملفات الفساد والاعتداءات الجنسية والتحدّيات السينودوسية، وآخرها ما يجري في كنيسة ألمانيا الكاثوليكية من مراجعات داخلية، والحضور السياسي العالمي، كما موقفها من حرب أوكرانيا الذي كان منذ البداية ملتبساً.
في لبنان، تراوح الكنيسة مكانها منذ عقد من الزمن، من دون أيّ محاولة لإطلاق مراجعة داخلية حول التخبط العشوائي في رسم سياسة الكنيسة سياسياً ووطنياً ومالياً (وهذا في حدّ ذاته يحتاج الى عملية تقويم شفافة). وقد تحوّل دورها لدى الفاتيكان نفسه، إلى دور متأرجح، يحمل التباسات ولا يترك انطباعات إيجابية. وما زاد من النظرة السلبية إليها، عدا عن دفاع بعض المنتفعين من مصالح معها، خلال الأزمة الاقتصادية الضاربة، غياب أي مراجعة حقيقية للفساد المستشري في عدد لافت من مؤسساتها والمحيطين الأقربين منها، إضافة الى التعثر في وضع المستشفيات والمدارس والجامعات، وعدم ضع خطط واضحة بناءً على توجيهات الفاتيكان لمساعدة القطاعين التربوي والاستشفائي التابع لها، عدا عن التخبط في الملف السياسي والرئاسي أخيراً.
وإذا كان لم يسجل من «إنجاز» واضح للكنيسة في الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة - إن لم يكن الوحيد خلال العقد الأخير - سوى حماية جمعية المصارف وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، رغم كل ارتكاباتهما ضد المودعين الذين تدافع عنهم الكنيسة بخفر في عظات الأحد، يمكن التوقف عند التخبّط الذي تعيشه في مقاربة ملف رئاسة الجمهورية.
حين دعا الراعي، لدى تولّيه السدّة البطريركية، الى اجتماع القادة الأربعة، رغم تحفّظ الأربعة أنفسهم، واحتجاج قيادات مارونية وشخصيات فاعلة على اختصار القيادات المارونية بالأربعة فحسب، كرّس واقعة غير سليمة في مسار العمل السياسي. والنتيجة التي خلص إليها بتبنّي مقولة الزعيم القوي لم تجد صدى إيجابياً لدى كل القيادات الأربع. وقد أثبتت لاحقاً عدم صوابيتها، وها هي تصبح اليوم عذراً لفريق الثامن من آذار، بتعبير الرئيس نبيه بري نفسه، لتبرير اختيار أحد الزعماء الأربعة رئيس تيار المردة سليمان فرنجية.
لم يكن اجتماع القادة الأربعة سوى محاولة لنسف مسار بطريريكي سابق، بالإصرار على جمع القادة الموارنة، ولم يكن الهمّ حينها رئاسة الجمهورية، لأن كل التركيز كان على إجراء الانتخابات النيابية وإقرار قانون الانتخاب والطروحات التي سوّقت حينها لإقراره. والواقع أن الراعي لم يقم بما يقوم به اليوم، خلال الشغور الرئاسي السابق الذي أعقب خروج الرئيس ميشال سليمان من القصر. فهو كان حينها يخوض معركة مرشح قوى الثامن من آذار. وهذه حقيقة يحاول المدافعون عن بكركي اليوم القفز فوقها وفوق مواقف الراعي المحلية والإقليمية التي بدأ بها حبريّته.
لا يستبعد مطّلعون أن يكون الراعي مؤيّداً لتسوية مع فرنجية من دون المجاهرة بذلك

ويتحدث محيطون به عن حقيقة موقفه آنذاك من تأييد مطلق لفرنجية في التسوية التي كان يسعى إليها الرئيس سعد الحريري، وكان محبِّذاً ومسوِّقاً لها، قبل أن ترسو التسوية على العماد ميشال عون، ولم يعارضها بطبيعة الحال آنذاك. ولا يستبعد مطّلعون على بعض مداولات جرت معه أن يكون مؤيداً اليوم لتسوية مماثلة مع فرنجية، من دون أن يكون مستعداً للمجاهرة بها، بسبب المعارضة التي سيواجهها من القوى المسيحية الرافضة لزعيم المردة. وهذا يعكس وجهاً من وجوه التخبّط الذي تعيشه بكركي في مقاربة ملف الرئاسة، ولا سيما أن العبرة التي خلصت إليها أيام البطريرك نصر الله بطرس صفير، قضت بالابتعاد عن الدخول المباشر في تزكية مرشحين وتقديمهم كمرشحين لبكركي أو يدّعون الحصول على بركة سيّدها بمجرد ذكر اسمهم في بعض المحافل الإعلامية. فمهما كانت خلفيات تحرّك راعي أبرشية أنطلياس المارونية المطران أنطوان أبي نجم كبادرة حسن نية، أو كنموذج لتقديم نفسه مطراناً سياسياً على غرار المطران الراحل يوسف بشارة، وكأحد المرشحين للكرسي البطريركي، وليس كتكليف، صبّت النتيجة السلبية، على صورة بكركي كموقع، وخصوصاً أن الراعي والمقرّبين منه، المكلّفين الاتصال بقوى سياسية، نظروا إليها بعين غير راضية، ما أظهر في المحصلة أن بكركي دخلت في معمعة المرشحين الجديّين وغير الجديّين المعروفة انتماءاتهم و«خلفيّات» واضحة الأسباب لطرح أسمائهم. هذا التعاطي في ملف شائك بروحية المبتدئين في العمل السياسي، وردود الفعل التي سمعتها بكركي من القوى السياسية، فتح باب الخلافات المسيحية الداخلية، لأن ما يتم تناقله من كلام حادّ حول موقف القيادات من بعضها البعض أو من مرشحين تحاول بكركي تزكيتهم أو ترفضهم بالمطلق، ومنهم المتداولة أسماؤهم، لا يمكن وضعه في خانة تقريب وجهات النظر. ولعل ما تقوم به قيادات سياسية بعيداً عن بكركي، يعطي بعض الحركة للجوّ الرئاسي. وهذا في حدّ ذاته نكسة لبكركي بعد تعثّر كل طروحاتها في نقل الملف الرئاسي الى الصرح، سواء من خلال اجتماعات فردية أو جماعية. والملف الرئاسي شائك بما يكفي إقليمياً ودولياً محلياً، من دور الثنائي الشيعي وانسحاب القوى السنيّة من الواجهة، كي لا يكون عرضة لخفّة في الطروحات والشخصيات التي تتولّى إدارتها في بكركي وحولها.