مساء الأربعاء الماضي، أي بتاريخ 1 آذار، أعلن مصرف لبنان بشكل مفاجئ رفع دولار صيرفة من 43500 ليرة لبنانية إلى 70 ألف ليرة اعتباراً من اليوم التالي. فور انتشار الخبر، حاول عدد من مشتركي الخطوط الخلوية الثابتة تسديد فواتيرهم عبر التطبيق الهاتفي من دون أن ينجحوا نتيجة توقّف التطبيق عن العمل. حالف الحظ بعض ممن سدّدوا فواتيرهم صباح الأول من آذار ومن ابتاعوا بطاقات مسبقة الدفع في ذلك اليوم، في مقابل تكبّد آخرين تكاليف مضاعفة في اليوم التالي لقاء الخدمة نفسها. هكذا، حُمِّل المواطن مرّة أخرى وزر سياسة مصرف لبنان وتقلّبات سعر الصرف والمضاربة بين المركزي والصرّافين، بعدما حُمِّل منذ 9 أشهر تكاليف إضافية على فاتورة الخلوي بلغت 6 أضعاف ليبلغ مجموع الزيادة اليوم إلى نحو 9 أضعاف.ما سبق يأتي في سياق استراتيجية الدولة الترقيعية في كل المجالات، ومن ضمنها قطاع الاتصالات. بدا الأمر مع قرار الدولة السماح بالتسعير بالدولار للسلع والخدمات الأساسية. المازوت أولاً، ثم المطاعم والمؤسسات السياحية، وصولاً إلى فواتير الهاتف والإنترنت والكهرباء وسواها. بعضها سعّر على أساس الدولار السوقي، وبعضها على أساس دولار «صيرفة». في المقابل، لا تزال معظم مداخيل العاملين في القطاعين العام والخاص بالليرة اللبنانية، ما يعني أن كل تعديل في سعر الدولار سينعكس سلباً على القدرة الشرائية لهؤلاء. وما هو ثابت، هو أن الانحدار لن يتوقف طالما الحلول الترقيعية مستمرة، ما يعني أن الخسائر اللاحقة بالمواطنين ستزداد، وأن فاتورة الاتصالات ستزداد مع تقلّب في السعر لتصبح أعباءها أكبر على الأسر.
في خضم ذلك كله، كان أمام وزارة الاتصالات خيارات لتخفيف العبء عن المواطنين عبر استخدام مداخيلها المتأتّية بالدولار من خدمة الـ roaming على سبيل المثال، بدلاً من إيداعها لدى مصرف لبنان ليستفيد منها الحاكم رياض سلامة ويستعملها في ألاعيبه. الوزارة تحتفظ بهذه الإيرادات بالدولار وقد تسعى لإنفاقها على الأكلاف التشغيلية لضمان استمرارية القطاع، في ظل وضع استثنائي يستحيل معه الاستثمار في الشبكة، وهذا يعني أنها لن تقدم على خطوة ما لتخفيف الكلفة على المشترك واستثمار الأموال بشكل مجدٍ وتبديل العقلية التي يدار بها القطاع.
وفق ما يقول وزير الاتصالات جوني قرم لـ«الأخبار»، فإنه لم يسجّل أيّ انخفاض في عدد المشتركين بعد رفع الأسعار، بل ثمة زيادة طفيفة في العدد تزامناً مع «انخفاض في استهلاك الداتا». أي أن المشتركين خفضوا اشتراكاتهم في ما يتعلق برزمة الإنترنت. السبب هو أن خدمة الإنترنت عبر الخلوي مرتفعة جداً وباهظة، وهذا ما يعيدنا إلى أصل المشكلة التي تكمن في أن الدولة تعاملت مع هذا القطاع باعتبارها مصدراً للإيرادات لا خدمة للأفراد والشركات.
لذا، فإن سلوك السلطة بعدما تملّكت شركتَي الخلوي لم يتغيّر، ولم تمارس ما يتوجب على الدولة القيام به تجاه مواطنيها. إذ كان بإمكانها تقليص الأعباء على المشتركين، من خلال إطالة صلاحية الخطوط المسبقة الدفع لمدّة شهرين أو ثلاثة أو حتى لسنة، كما يحصل حول العالم. وهذا ما يتيح للمشترك زيادة استهلاكه من الداتا. وكان بإمكان وزارة الاتصالات أن تعدّل احتساب الاتصالات الخلوية وفق الثانية لا الدقيقة، وهو أمر كان سيخفف الكثير من الأعباء عن المشتركين في ظل الظروف الحالية. فالواقع أن تعزيز الاستهلاك هو أمر محبّذ تجارياً ويدرّ المزيد من الإيرادات من دون أن تلجأ الدولة إلى «سرقة» مواطنيها.
سلوك الدولة هذا تجاه قطاع الاتصالات ليس مستجدّاً. فلطالما كانت شركتا الاتصالات تبيضان ذهباً من أموال الناس التي تهدر على رعاية مناسبات سياسية وحزبية وعلى رشى وحفلات ومصاريف مبالغ فيها، وغيرها الكثير مما كشفه تقرير ديوان المحاسبة (راجع «الأخبار» الجمعة 15 نيسان 2022). لكن المستجدّ اليوم يتمثّل بالعبء الذي تمثّله تعرفة الخلوي باعتبارها خدمة ضرورية على الأسر والشركات. معظم مكوّنات التعرفة مبنيّة على ضرائب ورسوم تزيد الضغط الضريبي على ما يدفعه المواطن إلى مستويات هائلة. وهذا العبء مرشح للاتساع أكثر وباستمرار طالما انهيار الليرة متواصل. صحيح أن ربط التعرفة بسعر الدولار (صيرفة) قد يكون منطقياً طالما أن أكثر من ثلثَي كلفة القطاع هي بالدولار، سواء لجهة كلفة المازوت وجزء من رواتب العاملين، وكلفة التراخيص للبرامج والصيانة وسواها، إلا أن المشكلة تكمن في مكوّنات بنية التعرفة وليس في كونها بالدولار. لذا، فإن التبريرات التي يسوقها المسؤولون تجاه ارتفاع سعر «صيرفة» تبدو لوهلة أولى مقنعة، لكن خلفها تكمن جريمة. في هذا السياق، يقول قرم إن الوزارة تلقّت وزر ارتفاع دولار صيرفة مثلها مثل كل القطاعات.
المشكلة تكمن في مكوّنات بنية التعرفة وليس في كونها بالدولار

فالمنصّة لا علاقة لها مباشرة بالوزارة «لا نحن منطلعها ولا نحن منزلها». وبرأيه كان من الطبيعي إزاء هذا الارتفاع المفاجئ الذي لحق الارتفاع الكبير بسعر صرف الدولار في السوق الحرّة، مواكبة ذلك «لأن مصاريف القطاع بالدولار، ولأن المورّدين يتعاملون معنا أيضاً بالدولار ولا يقبلون بأي صيغة أخرى». أما بالنسبة إلى المصاريف، «فقد تمكنّا من خفضها الى النصف تقريباً أو أقل عبر تركيب طاقة شمسية وبطاريات lithium وخفض استهلاك المازوت بنسبة 30% وخفض عدد المحطات مقابل زيادة إيراداتنا عبر تغيير حصة الدولة من خدمة القيمة المضافة VAS من 30% للدولة و70% للمورّدين الى 70% للدولة». لكن ذلك لا يلغي أن الكلفة لا تزال مرتفعة على المواطنين، وثمّة من يعاني لدفعها إلا أنّ الخيارات محدودة: إما سلوك طريق مؤسسة كهرباء لبنان عبر تسجيل عجز لاستحالة المعادلة بين الإيرادات والنفقات والدخول في تقنين كالاضطرار إلى إطفاء محطّات، مع ما يعنيه ذلك من سوء خدمة وانقطاع الاتصالات لساعات أو تأمين استمرارية القطاع عبر رفع التعرفة واستخدام آلية صيرفة كوسيلة الدفع للحاق بارتفاع الدولار. المشكلة هنا مشكلة بلد لا قطاع اتصالات لوحده. ويؤكد أن الشركتين أدخلتا الى الخزينة نهاية عام 2022 نحو 3200 مليار ليرة لأنهما لم تتمكنم من القيام بأيّ استثمار خلال هذا الوضع الاستثنائي، رغم أنه ضروري لمواكبة التطور. «لسنا في حال طبيعية لنثبّت التعرفة طالما أن الليرة تنهار والدولار يتحرك بوتيرة سريعة».



أوجيرو من عجز إلى عجز
لا تكاد هيئة أوجيرو تخرج من عجز حتى تدخل في آخر. رغم زيادة أسعار الخدمات فيها منذ 9 أشهر، يستحيل معادلة المصاريف التي احتسبت يومها على أساس 25 ألف ليرة للدولار فطبقت زيادة 2.5 على الأسعار ليصبح الدولار معادلاً لـ3645 ليرة، وما طرأ اليوم من ارتفاع في السوق الحرة. فما كان ملائماً يومها لتحقيق التوازن لم يعد قائماً، وبحسب وزير الاتصالات مدخول أوجيرو الحالي هو 2500 مليار ليرة ومصروفها سيصبح 4 مرات أكثر، ما يعني أن الهيئة تسجل عجزاً، تتم تغطيته عبر سلف خزينة؛ إلا أنه في حال عدم تعديل التعرفة يصبح سداد السلف متعذراً. علماً أن السلفة التي نالتها أوجيرو لا تُعدّ أموالاً إضافية بل هي لسداد مستحقات الموظفين عن عام 2020 واحتساب لكلفة مستحقات 6 أشهر مقبلة من دون أن يحظوا بأي إضافات. وثمة مشكلة أخرى في الهيئة قوامها الأعطال في المولدات في كافة المناطق، إذ تعمل ما يعادل 20 ساعة يومياً من دون أن تخضع لصيانة أو لتبديل قطع منذ 3 سنوات. وفيما يمكن للعقد بين وزارة الاتصالات وأوجيرو (بقيمة 54 ملياراً على أن تدفع منها 26 مليون دولار فريش والباقي بالليرة) أن يحلّ جزءاً من المشكلة، لم تتمكن الوزارة من دفعها إلى حين إعادة السماح بالموازنة الملحقة وإلى حين استكمال المراسيم التطبيقية غير الموجودة وحل مشكلة اقتصار دوامات الموظفين في وزارة المال على يوم واحد.